مصادر الإسلام

«وَإمَّا نُرِيَنَّكَ بَعضَ الَّذي نَعِدُهُمْ، أَوْ نَتَوفَّيَنَّك، فَإنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ، وعَلَيْنَا الْحِسَابُ»

(سورة الرعد 13:40)

 

تأليف

الدكتور سنكلير تِسدَل

 

 

مقدمة

 

بسم الله الهادي

 

الحمد لله الذي ميَّز الإنسان بالنُّطق والبيان، وخصَّه بالعقل، أشرف المواهب وأسماها، وأجلّ النِّعم وأسناها، وبه يتوصَّل إلى معرفة الرحمن الرحيم، ويهتدي إلى المنهج القويم، فيتمتع في الآخرة بفردوس النعيم، ويحظى بالسعادة الجليلة والنعم الجزيلة. قال الله: «أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر». فاللهم اجعلنا من عبادك المختارين، وهَبْنا من لدنك عقولاً سليمة وأفكاراً مستقيمة توصِّلنا إلى الحق والحياة، لنفوز بنعيم الخلد والنجاة، فقد مددنا إليك يد الاستعانة وبخعنا إليك بالاستكانة، وأنت نِعم المولى ونِعم المعين.

لا يخفى على ذوي الألباب المشهورين بالتحقيق، أن جمال الأجسام السماوية العجيب، ونظام الكائنات الأرضية الغريب، وترتيب الموجودات على ما نراه من الإتقان والإحكام، لم يأتِ من العدم إلى الوجود بدون سبب وعلَّة، بل بالعكس، فقد أوجدته يد المولى، سبب الأسباب وواجب الوجود، البارئ القدير، سبحانه. فعلى القياس نفسه نقول إن كل شيء، سواء كان فعلاً أو قولاً أو فكراً، لابد أن يكون له سبب خاص لا يمكن أن يحصل بدونه. فلا بدَّ للأثر من مؤثِّر وللمعلول من عِلَّة والمسبِّب من سبب. وبما أنه توجد في هذه الدنيا مذاهب شتى وأديان متنوعة مختلفة، فمن الواضح أنه لابد أن يكون لكل دين في هذه الأديان (حقيقياً كان أو كاذباً) مصدر صدر منه، كالمجرى الذي يصدر من الينبوع. وبما أن كثيرين من البشر اعتقدوا بهذا الدين وجعلوه أساس رجائهم ومنتهى غايتهم، رأيت أن أضع الصفحات التالية، مستعيناً بقوة الله في البحث بدقَّة في مصادر الإسلام، لأن اليهود والمسيحين لم يقبلوه، بل قالوا إنهم بعد البحث والتدقيق لم يجدوا بيِّنات إلهية وأدلة قوية تؤيد صدقه. أما المسلمون فكثيرون منهم يتمسَّكون بدينهم لأنهم وجدوا آباءهم وأجدادهم عليه، فاعتنقوه بدون بحث. كما أن بعضهم رفضوه سراً أو جهراً لأنهم لم يجدوا من يستطيع أن يبرهن لهم صدق ما ورثوه عن آبائهم، ولم يقنعهم أحدٌ بأنه الدين الحق الوحيد.

وقد ألَّف بعض علماء المسلمين كتباً مثل «ميزان الموازين» و«حسام الشيعة» وما شاكلهما، ولكنها لم تروِ غليل المفكر العاقل، لأن أدلتها لا تزيل الشبهات ولا تدرأ المشاكل من عقل الباحث عن الحق. لقد أظهر مؤلفو الكتب الدفاعية عن الإسلام غيرة عظيمة في تأييد ديانتهم، وبذلوا الجهد ليدحضوا اعتراضات من طعنوا في أدلته، ولكن معلوماتهم لم تكن قدر غيرتهم المحمودة.

لهذا رأيتُ أن أبحث وأدقِّق في أركان الإسلام وأساساته ومصادره مستعيناً بالله سبحانه. ومع اعترافي بالعجز والتقصير، فقد بذلت الجهد المستطاع في البحث والتحقيق، وأتيت بنتيجة تحقيقاتي في هذا الكتاب ليتأمل فيها القارئ، راجياً أن يستفيد منه كل من طالعه بالانتباه والتروي، فيتأكد من معرفة مصادر الإسلام وأصل هذا النهر العظيم الذي فاضت مياهه في كثير من الآفاق.

 

الفصل الأول

تقديم

 

قال علماء الإسلام إن الله أنزل دينهم بأجمعه على محمد، فجعلوا بنيان الديانة الإسلامية وأساسها على حقيقة رسالته، واعتبروا من أنكر نبوَّة محمد ورسالته عدواً كافراً، لأنهم يرون أن إنكار ذلك يعني استئصال ديانتهم وملاشاتها. وقرروا أن أربعة أركان الدين الصحيح هي (1) القرآن، و(2) الحديث، و(3) الإجماع، و(4) القياس. ولا لزوم للكلام عن الركنين الثالث والرابع، لأنهما لن يتناقضا مع القرآن والأحاديث.

ومن المؤسف أن المسلمين لم يتفقوا على الأحاديث الصحيحة، فالأحاديث التي يعتبرها أهل السُّنة صحيحة تختلف عن الأحاديث التي يتمسَّك بها الشيعة والوهابيون. ومن المعلوم أن الأحاديث المعتبرة عند الشيعة هي الواردة في كتب (1) «الكافي» لأبي جعفر محمد (329 هـ)، و(2) «من لا يستحضره الفقيه» للشيخ علي (381 هـ)، و(3) «الاستبصار» للمؤلف ذاته، و(4) «نهج البلاغة» للسيد الرضي (406 هـ). لكن أهل السُّنة لم يعتمدوا على هذه الكتب، بل اعتمدوا على ستة كتب أخرى وهي: (1) «الموطأ» لأنس بن مالك (2) «صحيح» البخاري (3) «صحيح» مسلم (4) «سُنن» أبي داود سليمان (5) «الجامع» للترمذي (6) «السنن» لمحمد بن يزيد بن ماجة القزويني. ولكن علماء الإسلام أجمعوا على أن القرآن هو الوحي المتلو، والأحاديث هي الوحي غير المتلو. ومن القواعد المقررة أنه إذا خالف الحديث آية من آيات القرآن، وجب رفض الحديث، لأنهم يعتبرون القرآن كلام الله. غير أن فائدة الأحاديث هي بيان غوامض القرآن وتوضيح ما أُشكل والتبس منه. مثلاً ورد في سورة الإسراء 17:1 «سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى». فيلزم لفهم هذه الآية مراجعة الأحاديث، فهي توضح معنى المعراج وتشرحه كما هو معروف عند علماء الإسلام. وكذلك لولا الحديث ما فهم أحدٌ معنى «ق» (وهو اسم السورة رقم 50 في القرآن). فالأحاديث هي التي أوضحت أن الحرف «ق» اسم جبل. ولهذا عزمنا، طلباً للاختصار، على ألا نورد في هذا الكتاب شيئاً يختصُّ بمصادر الإسلام من عقيدة إسلامية أو تعليم، إلا ما كان له أصل وأساس في القرآن ذاته، ويكون قد ورد له تفسير وشرح في الأحاديث المشهورة المتواترة بين كل المسلمين، سواء كانوا من أهل السنة أو الشيعة، لأننا نريد أن تعمَّ فوائد كتابنا هذا بين كل المسلمين، وأن نسهِّل تداوله بين أهل السنة وأهل الشيعة.

وقد اتفق علماء الإسلام على أن القرآن هو كلام الله، كتبه سبحانه في اللوح المحفوظ قبل العالمين. ومع أنه حصلت في خلافة المأمون وبعد خلافته مشاحنات حامية بخصوص قِدَم القرآن (مما لا لزوم إلى ذكره هنا) إلا أن المسلمين أجمعوا على أن القرآن ليس من تأليفٍ بشري، بل قد أنزله الله كله على محمد بواسطة جبريل. وقال ابن خلدون تأييداً لهذا: «إن القرآن نزل بلغة العرب على أساليب بلاغتهم، وكانوا كلهم يفهمونه ويعلمون معانيه من مفرداته وتراكيبه، وكان ينزل جُملاً جملاً وآيات آيات لبيان التوحيد والفروض الدينية بحسب الوقائع، ومنها ما هو في العقائد الإيمانية، ومنها ما هو في أحكام الجوارح» (ابن خلدون ج 2 ص 391). وقال أيضاً: «ويدلُّك هذا كله على أن القرآن بين الكتب الإلهية إنما تلقاه نبيُّنا صلوات الله وسلامه عليه متلوّاً كما هو بكلماته وتراكيبه، بخلاف التوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب السماوية، فإن الأنبياء يتلقونها في حال الوحي معاني، ويعبّرون عنها بعد رجوعهم إلى الحالة البشرية بكلامهم المعتاد لهم، ولذلك لم يكن فيها إعجاز». (ابن خلدون ج 1 ص 171 و172).

وقد اعتمد علماء الإسلام في اعتقادهم بأن القرآن أنزله الله في آيات قرآنية، مثل: «قُل الله شهيد بيني وبينكم، وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به» (سورة الأنعام 6:19) فمن هذا يتَّضح أن القرآن يقول إنه ليس تصنيف محمد، وليس مجموعاً من تأليف البشر، بل هو كلام الله تماماً وكليةً، نزل على محمد من السماء في ليلة القدر «إنا أنزلناه في ليلة القدر» (سورة القدر 97:1). فإذا قبلنا هذا الشرح والبيان وجب الاعتراف بأن مصدر القرآن الوحيد وأصل الدين الإسلامي هو الله رب العالمين، وليس له مصدر خلاف ذلك. فإذا أمكن بالبحث والتحقيق إقامة الدليل أن أكثر القرآن وأغلب عقائده أُخذت من الأديان الأخرى، ومن الكتب التي كانت موجودة في أيام محمد ولا تزال موجودة حتى الآن، ينهار أساس الإسلام. وبما أن بعض المعترضين أكَّدوا أنه في استطاعتهم إقامة الأدلة والبراهين على ذلك، وجب على كل باحث عن الحق، وعلى كل مسلم حقيقي أن يبحث في هذه القضية الهامة، ليعرف: هل قول المعترضين صدق أم كذب؟ لأنه إذا استطاع دحض اعتراضهم أثبت صِدق دين الإسلام وأنه من عند الله. ولهذا السبب عزمنا على البحث في الاعتراضات، وفي تحقيق دعاوي من ذهب إلى أن كثيراً من تعاليم القرآن وعقائد الإسلام مأخوذ ومقتبس من الأديان الأخرى، ومن الكتب السابقة على القرآن.

 

 

 

الفصل الثاني

تأثيرات عرب الجاهلية

 

قال المعترضون إنه بما أن محمداً كان قد عزم على إنقاذ العرب وتحريرهم من عبادة الأصنام وهدايتهم إلى عبادة الله، وبما أنه كان يعرف أنهم كانوا في زمن إبراهيم مؤمنين بوحدانية الله، وبما أنهم حافظوا على كثير من العادات والفروض بطريق التوارث عن آبائهم الأتقياء، فإنه لم يُلزِمهم أن يتركوها كلها، بل بذل الجهد في إصلاح ديانتهم، وإبقاء كل عادة قديمة رأى أنها موافقة ومناسبة. فقال: «ومن أحسن ديناً ممَّن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفاً واتخذ الله إبراهيم خليلاً» (سورة النساء 4:125)، وقال: «قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين» (سورة آل عمران 3:95)، وقال: «قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين» (سورة الأنعام 6:161). وبما أن محمداً ظن أن العرب حافظوا من عصر إبراهيم على جميع عاداتهم وفروضهم، ما عدا عبادة الأصنام والشِرك ووأد البنات والأطفال وما شاكل ذلك من العادات الكريهة، أبقى كثيراً من هذه العادات الدينية والأخلاقية في ديانته وحافظ عليها.

ومعروفٌ أن بعض قبائل جنوب بلاد العرب وشرقيها اختلطوا مع نسل حام بن نوح، وقال ابن هشام والطبري وغيرهما إن كثيرين من سكان جهات بلاد العرب الشمالية والغربية تناسلوا من سام بن نوح، وبعضهم تناسل من قحطان (يقطان)، وبعضهم تناسل من أولاد قطورة زوجة إبراهيم الثانية، وتناسل البعض الآخر (ومنهم قبيلة قريش) من إسماعيل بن إبراهيم. ولا ينكر أحد أن جميع القبائل التي تناسلت من ذرية سام كانوا يؤمنون بوحدانية الله. ولكن مع مرور العصور أخذوا الشرك وعبادة الأصنام من القبائل السورية وسكان الجهات المجاورة لهم، وأفسدوا ديانة أسلافهم، وفسدوا هم أنفسهم. ومع ذلك، لما نسيت جميع الأمم الأخرى (ما عدا اليهود) وحدانية الله، كان سكان الجهات الشمالية والغربية من شبه الجزيرة العربية متمسكين بالوحدانية تمسكاً راسخاً. والأرجح أن دخول عبادة الشمس والقمر والكواكب بين سكان تلك الجهات بدأ في عصر أيوب (أيوب 31:26-28). وقال هيرودوت، أشهر مؤرخي اليونان (نحو 400 ق م) إن العرب سكان تلك الجهات كانوا يعبدون معبودين فقط، هما «أُرُتال» و«ألإلات» (تاريخ هيرودوت، كتاب 3 فصل 8). وقصد هيرودوت بالمعبود «أُرُتال» الله، فإن هذا هو اسمه الحقيقي. ومع أن هيرودوت زار بلاد العرب، إلا أنه كان أجنبياً، فلم يتيسَّر له ضبط هذا الاسم، فحرَّفه لجهله باللغة العربية وتهجئتها والنطق بها. ومن الأدلة القوية الدالة على أن هذه التسمية (أي الله) كانت مشهورة ومنتشرة بين العرب قبل زمن محمد، أنه كثيراً ما ذُكر اسم الله في سبع معلَّقات العرب (وهي تأليف مشاهير شعراء العرب قبل مولد محمد، أو على الأقل قبل بعثته) فقد ورد في ديوان النابغة ما نصه:

لهم شيمةٌ لم يعطها اللهُ غيرَهم من الجود والأحلام غير مَوَازِبِ

محلَّتهم ذاتُ الإلهِ ودينُهم قويمٌ فما يَرجون غيرَ العواقبِ

وأيضاً:

ألم ترَ أن اللهَ أعطاك سورةً ترى كل مَلِكٍ دونها يتذبذبُ

بأنك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ إذا طلعَت لم يبْدُ منهنَّ كوكبُ

وأيضاً:

ونحن لديه نسألُ اللهَ خُلْدَهُ يردُّ لنا مُلكاً وللأرض عامراً

ونحن نزجّي الخُلد إن فاز قِدْحُنا ونرهبُ قِدحَ الموتِ إن جاء قاهراً

وقال لبيد في ديوانه:

لعمرِك ما تدري الضوارب بالحصى ولا زاجراتُ الطيرِ ما اللهُ صانعُ

وقد كانت الكعبة من قديم الأيام أقدس مسجد عند جميع قبائل العرب. قال ثيودور الصقلي، أحد مؤرخي اليونان (نحو 60 ق م) إن العرب كانوا يعتبرون الكعبة في ذلك الوقت مسجداً مقدساً (تاريخ ثيودور الصقلي كتاب 3) وكان يطلق على هذا المقدس «بيت الله». ويُستدل من دخول أداة التعريف على لفظ الجلالة أن العرب لم ينسوا عقيدة وحدانية الله، وأنه كان عندهم كثير من المعبودات، حتى أطلق عليهم القرآن بسببها اسم «المشركين» لأنهم أشركوا مع الله غيره من المعبودات وعبدوها، وظنوا أنها شريكة معه في الإكرام والعبادة. ولكنهم كانوا يقولون لا نعبد هذه المعبودات الثانوية كما نعبد الله الحي (الذي هو الله) بل بالعكس إنّا نعتبرهم شفعاء، ولنا الرجاء أن بشفاعتهم نستميل الله الحقيقي لإجابة طلباتنا. وقال الشهرستاني: «إن العرب كانوا يقولون الشفيع والوسيلة منّا إلى الله تعالى هم الأصنام المنصوبة، فيعبدون الأصنام التي هي الوسائل» (الملل والنحل ص 109). ومن الأدلة على أن عبَدة الأصنام كانوا يعتقدون بهذا، ما ورد في كتاب «المواهب اللدنية»: «قدِم نفرٌ من مهاجري الحبشة حين قرأ محمد «والنجم إذا هوى» (سورة النجم 53:1) حتى بلغ «أفرأيتم اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى» (53:19 و20) ألقى الشيطان في أمنيته (أي في تلاوته) «تلك الغرانيق العُلى، وإن شفاعتهنَّ لتُرتجي» فلما ختم السورة سجد (ص) وسجد معه المشركون لتوهُّمهم أنه ذكر آلهتهم بخير. وفشى ذلك بالناس وأظهره الشيطان حتى بلغ أرض الحبشة، ومَن بها مِن المسلمين: عثمان بن مظعون وأصحابه، وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم وصلوا معه (ص) وقد أمِن المسلمون بمكة، فأقبلوا سِراعاً من الحبشة».

وذكر ابن إسحق، وابن هشام، والطبري وكثيرون غيرهم من مؤرخي الإسلام هذه الحكاية أيضاً، وأيدها يحيى، وجلال الدين، والبيضاوي في تفاسيرهم لسورة الحج 22:52 «وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته، فينسخ الله ما يلقي الشيطان». وقال الشهرستاني بخصوص مذاهب قدماء العرب وعاداتهم: «والعرب الجاهلية أصناف، فصنفٌ أنكروا الخالق والبعث وقالوا بالطبع المحيي والدهر المغني، كما أخبر عنهم التنزيل. وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا. وقوله: «وما يهلكنا إلا الدهر» (سورة الجاثية 45:23). وصِنفٌ اعترفوا بالخالق وأنكروا البعث، وهم الذين أخبر الله عنهم بقوله: «أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد» (سورة ق 50:14). وصنفٌ عبدوا الأصنام وكانت أصنامهم مختصة بالقبائل، فكان وُدٌّ لكلب، وهو بدومة الجندل، وسُواع لهذيل، ويغوث لمَذْحَج ولقبائل من اليمن، ونسر لذي الكلاع بأرض حمير، ويَعوق لهمذان، واللات لثقيف بالطائف، والعُزَّى لقريش وبني كنانة، ومناة للأوس والخزرج، وهُبَل أعظم أصنامهم. وكان هُبل على ظهر الكعبة، وكان آساف ونائلة على الصَّفا والمروة. وكان منهم من يميل إلى اليهود، ومنهم من يميل إلى النصرانية، ومنهم من يميل إلى الصابئة، ويعتقد في أنواء المنازل اعتقاد المنجِّمين في الكواكب حتى لا يتحرك إلا بنوء من الأنواء، ويقول أمطرنا بنوء كذا. وكان منهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد الجن. وكانت علومهم علم الأنساب، والأنواء، والتواريخ، وتفسير الأحلام، وكان لأبي بكر الصديق فيها يدٌ طولى».

وكانت الجاهلية تفعل أشياء جاءت شريعة الإسلام بها، فكانوا لا ينكحون الأمهات والبنات، وكان أقبح شيء عندهم الجمع بين الأختين، وكانوا يعيبون المتزوّج بامرأة أبيه ويسمونه «الضيزن». وكانوا يحجّون البيت ويعتمرون ويحرمون ويطوفون ويسعون ويقفون المواقف كلها ويرمون الجمار، وكانوا يكسبون في كل ثلاثة أعوام شهراً، ويغتسلون من الجنابة. وكانوا يداومون على المضمضة والاستنشاق وفرق الرأس والسواك والاستنجاء وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة والختان، وكانوا يقطعون يد السارق اليمنى (من كتاب الملل والنحل للشهرستاني).

قال ابن إسحاق وابن هشام إن ذرية إسماعيل كانوا أولاً يعبدون الله الواحد ولا يشركون معه أحداً، ثم سقطوا في عبادة الأصنام. ومع ذلك فقد حافظوا على كثير من العادات والفروض التي كانت في أيام إبراهيم، فلم ينسوا أن الله كان أرفع من معبوداتهم، بل أنه هو الحاكم والمتسلط عليها جميعاً. وذُكر في سيرة الرسول:

«خلفت الخلوف ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسمعيل غيره، فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم قبلهم من الضلالات. وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم يتمسكون بها، من تعظيم البيت والطواف به والحج والعمرة والوقوف على عرفة والمزدلفة وهدي البدن والإهلال بالحج والعمرة، مع إدخالهم فيه ما ليس منه. فكانت كنانة وقريش إذا أهلوا قالوا: «لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك». فيوحدونه بالتلبية ثم يُدخلون معه أصنامهم ويجعلون ملكها بيده».

وذكر في القرآن قوله «إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر، ما من شفيع إلا من بعد إذنه. ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون» (سورة يونس 10:3). فالواضح من هذا أن العرب في أيام الجاهلية كانوا يعبدون الله بشفاعة العزى ومناة واللات (كما يطلب المسلمون في الوقت الحاضر غفران الخطايا من الله عز وجل بشفاعة الأولياء). وحينئذ يصدق على العرب الوثنيين لا مسلمي هذا الزمان قول القرآن إنهم مشركون. فينتج من ذلك أن سكان بلاد العرب حافظوا على عبادة الله إلى عصر محمد، واعترفوا بوحدانيته. وبناءً على ذلك يقول المعترضون إن محمداً أخذ هذه العقيدة من قومه وتعلمها من جدوده وأسلافه، ويتضح من اسم والده «عبد الله» واسم ابن أخيه «عبيد الله» الوارد فيهما لفظ الجلالة بأداة التعريف (وهي دلالة على الوحدانية) أن هذه العقيدة الشريفة كانت معروفة قبل بعثة محمد، وأن الديانة الإسلامية أخذت عادات الطواف والإهلال والإحرام وغيرها كثيراً من ديانة هذه القبائل القديمة.

وكان الختان من هذه العادات، كما قال الشهرستاني. ويتضح من نبذة صغيرة تسمى «رسالة برنابا» أن الختان لم يكن عند العرب فقط من قديم الزمان، بل كان مرعياً عند أمم كثيرة أيضاً، فإن مؤلف هذه الرسالة (التي كُتبت نحو سنة 200م) قال: «إن كل سوري وعربي، وجميع كهنة الأصنام يختتنون». وكان الختان مرعياً عند قدماء المصريين أيضاً. ومع أن العرب كانوا يعبدون أصناماً كثيرة في أيام محمد، حتى كان يوجد في الكعبة 360 تمثالاً، إلا أن ابن إسحق وابن هشام قالا إن عمراً بن لحي وهذيل بن مدركة أتيا بعبادة الأصنام من سوريا إلى مكة خمسة عشر جيلاً قبل عصر محمد. ولا يحتاج أحد إلى وحي وإلهام لمعرفة قباحة وبطلان هذه العادة المستحبَّة جداً عند العرب، بحيث لم يتمكن محمد من منعهم عن مزاولتها. وهذا هو سبب تقبيل الحجاج الحجر الأسود إلى يومنا هذا.

واضحٌ أن مصدر الديانة الإسلامية الأول كان تلك الفروض الدينية والعادات والاعتقادات التي كانت متداولة وسائدة في أيام محمد بين قبائل العرب، ولا سيما قريش .

ولم أعرف جواباً يرد به المسلمون على أقوال المعترضين هذه، إلا قولهم إن هذه الفروض والعادات أنزلها الله أولاً على إبراهيم، ثم أمر محمداً أن يبلغها للناس ثانية ليتمسكوا بها تمسكاً راسخاً. ولكن واضحٌ من خمسة أسفار موسى أن الاعتقاد بوحدانية الله، وفرض الختان كان من أركان ديانة إبراهيم، إلا أنه لم يرد في التوراة والإنجيل ذكر لمكة ولا للكعبة ولا للطواف ولا للحجر الأسود ولا للإحرام. ولا شك أن العادات المرتبطة والمتعلقة بهذه الأشياء هي اختراعات عبدة الأصنام، وليس لها أدنى ارتباط ولا علاقة بدين إبراهيم.

وقال المعترضون إن بعض آيات القرآن مقتبسة من القصائد التي كانت منتشرة ومتداولة بين قريش قبل بعثة محمد. وأوردوا بعض قصائد منسوبة إلى امرئ القيس مطبوعة في الكتب باسمه تأييداً لقولهم. ولا شك أنه ورد في هذه القصائد بعض أبيات تشبه آيات القرآن، بل هي عينها، أو تختلف عنها في كلمة أو كلمتين، ولكنها لا تختلف معها في المعنى مطلقاً. وهاك الأبيات التي يوردها المعترضون، وقد أظهرنا العبارات التي اقتبسها القرآن بخط أوضح:

دنت الساعةُ وانشقَّ القمر عن غزالٍ صاد قلبي ونفر

أحور قد حرتُ في أوصافه ناعس الطرف بعينيه حَوَر

مرَّ يوم العيــد في زيــنتـــه فرماني فتعاطى فعقر

بسهامٍ من لــِحاظٍ فاتــكِ فتَرَكْني كهشيمِ المُحتظِر

وإذا ما غــاب عني ساعةً كانت الساعةُ أدهى وأمرّ

كُتب الحسنُ على وجنته بسَحيق المِسْك سطراً مُختصَر

عادةُ الأقمارِ تسري في الدجى فرأيتُ الليلَ يسري بالقمر

بالضحى والليلِ من طُرَّته فَرْقه ذا النور كم شيء زَهَر

قلتُ إذ شقَّ العِذارُ خدَّه دنت الساعةُ وانشقَّ القمر

وله أيضاً:

أقبل والعشاقُ من خلفه كأنهم من كل حدبٍ يَنْسلون

وجاء يوم العيد في زينته لمثل ذا فليعملِ العاملون

وقال المؤرخون إنه جرت العادة سابقاً بين العرب أنه إذا نبغ بينهم رجل فصيح بليغ، وألف قصيدة بديعة غراء علَّقها على الكعبة، وأن هذا هو سبب تسمية «المعلقات السبع» بهذا الاسم، لأنها عُلِّقت على الكعبة. غير أن بعض المحققين الثقاة أنكروا أن هذا هو سبب التسمية. إلا أن هذا قليل الأهمية. وقال المفسر الشهير أبو جعفر أحمد بن إسماعيل النحاس (توفي سنة 338 هـ) في هذا الصدد: «اختلفوا في جامع هذه القصائد السبع، وقيل إن أكثر العرب كانوا يجتمعون بعكاظ ويتناشدون الشعر، فإذا استحسن الملك قصيدة قال: علقوها واثبتوها في خزانتي. فأما قول من قال عُلِّقت على الكعبة، فلا يعرفه أحد من الرواة. وأصح ما قيل في هذا إن حماداً الرّاوية، لما رأى زُهد الناس في الشعر، جمع هذه السبع وحضَّهم عليها، وقال لهم: هذه هي المشهورات. فسُمِّيت «القصائد المشهورة» لهذا السبب. وقال السيوطي بالفكرة نفسها، وأضاف إليها أن الأشعار كانت تُعلَّق على الكعبة (كتاب مذكر ج 2 ص 240).

ومن الحكايات المتداولة في عصرنا الحاضر أنه لما كانت فاطمة بنت محمد تتلو آية «اقتربت الساعة وانشق القمر» (سورة القمر 54:1) سمعتها بنت امرئ القيس وقالت لها: هذه قطعة من قصائد أبي، أخذها أبوك وادعى أن الله أنزلها عليه. ومع أنه يمكن أن تكون هذه الرواية كاذبة، لأن امرء القيس توفي سنة 540م، ولم يولد محمد إلا في سنة الفيل (أي سنة 570 م) إلا أنه لا ينكر أن الأبيات المذكورة واردة في سورة القمر 54:1 و27 و29؛ وفي سورة الضحى 93:1 و2؛ وفي سورة الأنبياء 21:96؛ وفي سورة الصافات 37:61، مع اختلاف طفيف في اللفظ وليس في المعنى. مثلاً ورد في القرآن «اقتربت» بينما وردت في القصيدة «دنت». فمن الواضح وجود مشابهة بين هذه الأبيات وبين آيات القرآن. فإذا ثبت أن هذه الأبيات هي لامرئ القيس حقيقةً، فحينئذ يصعب على المسلم توضيح كيفية ورودها في القرآن، لأنه يتعذر على الإنسان أن يصدق أن أبيات وثني كانت مسطورة في اللوح المحفوظ قبل إنشاء العالم.

ولستُ أرى مخرجاً لعلماء الإسلام من هذا الإشكال إلا أن يقيموا الدليل على أن امرء القيس هو الذي اقتبس هذه الآيات من القرآن، أو أنها ليست من نظم إمرئ القيس الذي توفي قبل مولد محمد بثلاثين سنة. ولو أنه سيصعب علينا أن نصدق أن ناظم هذه القصائد بلغ إلى هذا الحد من التهتك والاستخفاف والجراءة، بعد تأسيس مملكة الإسلام حتى يقتبس آياتٍ من القرآن ويستعملها بالكيفية المستعملة في هذه القصائد!

 

الفصل الثالث

تأثيرات الصابئين واليهود

لما شرع محمد في ادعاء النبوة، وبذل كل ما في وسعه لإبعاد قومه عن عبادة الأصنام وإرجاعهم إلى دين إبراهيم، لم يكن عند العرب كتاب وحي إلهي يُعوِّل عليه جميع قبائل العرب أو يتخذونه قانوناً ودستوراً لهم. فكان يصعب جداً إصلاح ما فسد واختل من ديانتهم، وكان رأب هذا الصدع في غاية الصعوبة. ومع ذلك فقد كان بينهم ثلاث طوائف تتداول كتباً دينية هي الصابئون، واليهود، والنصارى، لكل طائفة منها نفوذ وشأن في الديانة الإسلامية، التي كانت في ذلك العصر شبيهة بطفل مولود حديثاً.

الصابئون:

لم يبقَ أثرٌ لديانة الصابئين، فقال أبو الفداء في كتابه «التواريخ القديمة من المختصر في أخبار البشر»:

«ذكر أمة السريان والصابئين من كتاب أبي عيسى المغربي قال: أمة السريان هي أقدم الأمم، وكان كلام آدم وبنيه بالسرياني، وملّتهم هي ملة الصابئين، ويقولون إنهم أخذوا دينهم عن شيث وإدريس، ولهم كتاب يعزونه إلى شيث يذكر فيه محاسن الأخلاق، مثل الصدق والشجاعة والتعصب للغريب، وما أشبه ذلك. ويذكر الرذائل ويأمر باجتنابها. وللصابئين عبادات منها سبع صلوات، منهن خمسٌ توافق صلوات المسلمين، والسادسة صلاة الضحى، والسابعة صلاة يكون وقتها في تمام الساعة السادسة من الليل. وصلواتهم كصلاة المسلمين من النية وأن لا يخلطها المصلي بشيء من غيرها. ولهم الصلاة على الميت بلا ركوع ولا سجود. ويصومون ثلاثين يوماً، وإن نقص الشهر الهلالي صاموا تسعة وعشرين يوماً. وكانوا يراعون في صومهم الفطر والهلال، بحيث يكون الفطر وقد دخلت الشمس برج الحمل. ويصومون من ربع الليل الأخير إلى غروب قرص الشمس. ولهم أعياد عند نزول الكواكب الخمسة المتحيرة بيوت أشرافها. والخمسة المتحيرة هي زحل والمشترى والمريخ والزهرة وعطارد. ويعظمون بيت مكة».

فيتضح من هذا أن المسلمين أخذوا من قدماء الصابئين الصيام والصلوات الخمس وغيرها من الفرائض.

اليهود:

كان لليهود في عصر محمد، ولا سيما قبل الهجرة، سطوة عظيمة في بلاد العرب، وكانوا أيضاً كثيري العدد. ومن أشد القبائل اليهودية بأساً وأعظمها شأناً بنو قريظة وبنو قينقاع وبنو النضير. ولما اتضح أنهم مصممون على عدم الاعتراف بنبوَّة محمد ورسالته، نشبت بينهم وبين المسلمين معارك، وبكل صعوبة ومشقة تمكَّن المسلمون من أن يغلبوهم بقتلهم أو طردهم من بلاد العرب. ومع أن أولئك اليهود لم يكونوا مشهورين بالمعارف، إلا أنهم حافظوا بغاية الحرص على كتب أنبيائهم، مثل خمسة أسفار موسى ومزامير داود وغيرها. ولهذا السبب قيل عنهم (وعن النصارى أيضاً) في القرآن إنهم «أهل الكتاب». ومع أن كثيرين منهم لم يكونوا يعرفون اللغة العبرية حق المعرفة، إلا أنهم نقلوا (كاليهود القاطنين في مصر وغيرها) بطريق التواتر كثيراً من القصص والروايات الموجودة في التلمود وغيره من الخرافات الباطلة. وكثيراً ما كانوا يكررونها، مع أنه لا أصل لها في توراتهم، عوضاً عن ذكر تعاليم الوحي الإلهي المدونة في الكتب السماوية. وما ذلك إلا لعدم فهمهم لشريعة موسى وسائر الكتب الربانية. وكانت العرب في أيام الجاهلية يراعون مقام اليهود، لأنهم كانوا متأكدين أنهم ذرية إبراهيم خليل الله، وأنهم كانوا لا يزالون حفظة كلمة الله.

فلما رأى محمد أن عبادة الأصنام ليست مناسبة، بل مكروهة أمام الله الواحد، ولما كان قد عزم على إرجاع قومه إلى دين إبراهيم الخليل، فالأرجح أنه وجَّه أنظاره إلى اليهود للاستفادة منهم. فاستفهم منهم عن عقائد دين إبراهيم وفرائضه. وإذا قارنا بين التعاليم والأخبار الواردة في القرآن والأحاديث، وبين التعاليم والقصص والحكايات التي كانت متداولة بين اليهود في تلك العصور يتضح لنا العلاقة والارتباط والمشابهة العجيبة. وما يؤيد أن محمداً تعلم من اليهود وأخذ عنهم كل ما أمكنهم أن يفيدوه به عن دين إبراهيم هو ورود آيات كثيرة في القرآن نصَّ فيها صريحاً بأن دين إبراهيم كان حقاً. وزِد على ذلك أنه شهد أن الله هو الذي أنزل كتب اليهود الموحى بها، وأن عندهم الديانة الحقيقية، فقال: «ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا منهم، وقولوا: آمنا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون» (سورة العنكبوت 29:46). «قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسمعيل ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم. لا نفرِّق بين أحدٍ منهم، ونحن له مسلمون» (سورة البقرة 2:136). وبناءً على اقتناع محمد بصحَّة هذا الاعتقاد جعل بيت المقدس (أورشليم) في مبدأ الأمر قِبلة للمسلمين، لأنها كانت قِبلة اليهود.

وقد ردَّ بعض علماء المسلمين على أن محمداً أخذ من اليهود التعاليم والقصص الواردة في القرآن، والتي تشبه التعاليم والقصص الواردة في التلمود وفي كتب اليهود الأخرى بقولهم إن محمداً تسمَّى في (سورة الأعراف 7:157) «النبي الأمي» لعدم معرفته القراءة والكتابة، وعليه فهو لم يقرأ كتب اليهود. فكيف اقتبس منها تعاليمه؟

ونردُّ على ذلك بأن سبب تسميته «الأمي» هو أنه لم ينشأ بين اليهود بل نشأ بين الأمم، وقد اعتاد اليهود أن يطلقوا لقب «الأمم» على كل من لم يكن يهودياً، كما كان العرب يطلقون لقب «العجم» ليس على الفارسي فقط، بل على كل من لم يكن عربياً. ومعنى «عجمي» في الأصل «من ليس ذلق اللسان وفصيح المنطق». فإذا قرأنا في بعض الكتب العربية أن حافظ الشيرازي كان عجمياً، فليس المقصود أنه لم يكن فصيحاً، بل أنه لم يكن من العرب. وإذا فرضنا جدلاً أن محمداً كان أمياً لا يعرف القراءة ولا الكتابة، فهل كان يبعد عليه أن يستفهم من غيره فيعرف تعليم اليهود وعقائدهم؟ ولا شك أن هذا كان متيسِّراً له، ولا سيما أن بعض الصحابة كعبيد الله بن سلام وحبيب بن ملك وورقة بن نوفل كانوا من اليهود، أو يدينون بدين اليهود أولاً، ثم آمنوا بمحمد. ومع أنه لم يكن لهم إلمام تام بحقائق تعاليم العهد القديم الصحيحة، إلا أنهم كانوا يعرفون على الأقل بعض القصص والحكايات والخرافات التي كانت متداولة في تلك الأيام بين اليهود، وبلغت مبلغ التواتر. وإذا قارنا بين القرآن وبين تلك القصص المدوَّنة في التلمود وفي غيره من الكتب المشحونة بالأوهام التي لا تزال متداولة بين اليهود، اتضح لنا أن محمداً استعارها من كتب اليهود الفارغة. نعم لا ننكر أنه كثيراً ما ورد في القرآن أخبار عن سيرة إبراهيم وغيره من الأفاضل أكثر مما ورد في أسفار موسى الخمسة، ولكن أورد معارضو الإسلام القصص الآتية ليؤيدوا بها أن القرآن اقتبس قصصه وحكاياته من خرافات اليهود الفارغة:

(1) قصة قايين وهابيل:

لم يذكر القرآن صريحاً اسم ابني آدم، ولكنه أورد قصتهما، ونصُّها: «واتلُ عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتُقبل من أحدهما ولم يُتقبل من الآخر. قال: لأقتلنَّك. قال: إنما يتقبل الله من المتَّقين. لئن بسطتَ إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسطٍ يدي إليك لأقتلك. إني أخاف الله رب العالمين. إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار، وذلك جزاء الظالمين. فطوَّعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين. فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه. قال: يا ويلتي! أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي. فأصبح من النادمين. من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً» (سورة المائدة 5:27-32).

وقد روى اليهود روايات مختلفة بطرق شتى عما دار بين قايين وهابيل من هذه المحاورة الوهمية، فورد في ترجوم يوناثان بن عزيا، وفي الترجوم المسمى بيروشلمي، أن قايين (واسمه في الكتب العربية قابيل) قال: «لا عقاب ولا حساب على الخطية، ولا ثواب ولا مجازاة على الصلاح». غير أن هابيل اعترف بوجود عقاب وثواب، لذلك ضرب قايين أخاه بحجر وقتله. وورد في كتاب «فرقى ربي اليعزر» (فصل 21) ما ورد في القرآن بخصوص دفن جثة هابيل، إلا أن الغراب الذي وارى القتيل (في الرواية اليهودية) علَّم آدم (وليس قابيل) كيف يواري الجثة. وهاك نص الرواية اليهودية:

«كان آدم ومعينته (حواء) جالسين يبكيان ويندبان عليه (على هابيل) ولم يعرفا ماذا يفعلان بهابيل لأنهما لم يعرفا الدفن. فأتى غراب، كان أحد أصحابه قد مات، وأخذه وحفر في الأرض ودفنه أمام أعينهما. فقال آدم: سأفعل كما فعل هذا الغراب. فأخذ جثة هابيل وحفر في الأرض ودفنها».

أما ما ذكر في الآية 32 من السورة المذكورة فلا علاقة بينه وبين ما ذكر في الآيات المتقدمة. ولكن إذا رجعنا إلى كتاب «مشناه سنهدرين» (فصل 4 فقرة 5) رأينا هذه القصة مذكورة بالتفصيل وهي في القرآن ناقصة غير مستوفية. وهكذا تتَّضح العلاقة بين الآية المذكورة أعلاه وبين قصة قتل هابيل، لأن المفسر اليهودي في تفسيره للآية «ماذا فعلتَ؟ صوت دم أخيك (كلمة دم في الأصل العبري للتوراة بصيغة الجمع) صارخٌ إليَّ من الأرض» (تكوين 4:10) قال: «وجدنا قايين الذي قتل أخاه أنه قيل عنه «صوت دماء أخيك صارخٌ إليَّ». فلم يقُل «دم أخيك» بل «دماء أخيك» يعني دمه ودم ذرّيته، ولهذا السبب خُلق آدم وحده ليعلّمك أن كل من أهلك نفساً من إسرائيل فالكتاب يحسبه كأنه أهلك العالم جميعاً. وكل من أحيا نفساً فالكتاب يحسبه كأنه أحيا العالم جميعاً. وقد تُرجمت الآية 32 من سورة المائدة حرفياً تقريباً من أقوال هذا المفسر اليهودي القديم. ولكن بما أن القرآن أخذ نصف هذه الفقرة فقط، فيلزم لفهم معناها الرجوع إلى أصل هذه الآية القرآنية، كما أوضحناه هنا، فيظهر معناها للقارئ بوضوح.

(2) قصةإنقاذ إبراهيم من نار نمرود:

لم ترد هذه القصة في مكان واحد في القرآن، بل وردت مفرَّقةً مشتَّةً في سُور كثيرة، فوردت في سورة البقرة 2:260 وفي سورة الأنعام 6:74-84 وفي سورة مريم 19:41-50 وفي سورة الأنبياء 21:51-72 وفي سورة الشعراء 26:69-79؛ وفي سورة العنكبوت 29:16؛ وفي سورة الصافات 37:83-112؛ وفي سورة الزخرف 43:26-28؛ وفي سورة الممتحنة 60:4؛ وفي غيرها. ولكن من يقرأ قصة إبراهيم في أوائل كتاب «قصص الأنبياء» أو كتاب «عرائس المجالس» (أو في غيرهما) يجد أن جميع هذه القصص الواردة في القرآن أو في الأحاديث مأخوذة من أحد كتب اليهود المسمى «مدراش رباه». ولبرهنة ذلك نورد أولاً هذه القصة بنصها كما وردت في القرآن و«عرائس المجالس» وغيره ثم نوردها بنصها من الكتاب اليهودي المذكور أعلاه، ثم نقارن هاتين الروايتين الواحدة بالأخرى فينجلي الحق.

قال أبو الفداء في كتابه «التواريخ القديمة من المختصر في أخبار البشر»:

«كان آزر أبو إبراهيم يصنع الأصنام ويعطيها لإبراهيم ليبيعها، فكان إبراهيم يقول: من يشتري ما يضره ولا ينفعه؟ ثم لما أمر الله إبراهيم أن يدعو قومه إلى التوحيد، دعا أباه فلم يُجبه، ودعا قومه. فلما فشل أمره واتصل بنمرود بن كوش وهو ملك تلك البلاد.. أخذ نمرود إبراهيم الخليل ورماه في نار عظيمة، فكانت النار عليه برداً وسلاماً، وخرج إبراهيم من النار بعد أيام، ثم آمن به رجالٌ من قومه».

وورد في «عرائس المجالس»: «لما خرج إبراهيم قبل ذلك من المغارة في الليل رأى الكواكب قبل أن رأى القمر، فقال: «هذا ربي». «فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي. فلما أفل قال لا أحب الآفلين. فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي. فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين. فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر (لأنه رأى ضوءها أعظم) فلما أفلت قال يا قوم أني بريء مما تشركون. إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين» (الأنعام 6:76-79).

قالوا: وكان أبوه يصنع الأصنام، فلما ضمَّ إبراهيم إلى نفسه جعل يصنع الأصنام ويعطيها لإبراهيم ليبيعها، فيذهب بها إبراهيم، فينادي: من يشتري ما يضرُّ ولا ينفع؟ فلا يشتري أحدٌ منه. فإذا بارت عليه ذهب بها إلى نهر فضرب رؤوسها وقال لها: «اشربي. كسَدْتي» استهزاءً بقومه وبما هم عليه من الضلالة والجهالة، حتى فشا عيبه واستهزاؤه بها في قومه وأهل قريته، فحاجَّه قومه في دينه، فقال: «أتحاجّونني في الله وقد هداني؟.. وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه، نرفع درجات من نشاء. إن ربك حكيم عليم» (سورة الأنعام 6:80 و83) حتى خصمهم وغلبهم بالحُجة. ثم أن إبراهيم دعا آباه آزر إلى دينه «فقال يا أبت لِمَ تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً؟» (سورة مريم 19:42) إلى آخر القصة. فأبى أبوه الإجابة إلى ما دعاه إليه، ثم أن إبراهيم جاهر قومه بالبراءة مما كانوا يعبدون، وأظهر دينه «قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون؟ فإنهم عدو لي إلا رب العالمين» (سورة الشعراء 26:75-77) قالوا: فمن تعبد أنت؟ قال: رب العالمين. قالوا: تعني نمرود؟ فقال: لا، الذي خلقني فهو يهدين. إلى آخر القصة. ففشا ذلك في الناس حتى بلغ نمرود الجبار، فدعاه فقال له: يا إبراهيم، أرأيت إلهك الذي بعثك وتدعو إلى عبادته وتذكر من قدرته التي تعظمه بها على غيره ما هو؟ قال إبراهيم: «ربي الذي يحيي ويميت» (سورة البقرة 2:258) فقال نمرود: أنا أحيي وأميت. قال إبراهيم: كيف تحيي وتميت؟ قال: آخذ رجلين قد استوجبا القتل في حكمي فأقتل أحدهما فأكون قد أمتُّه، ثم أعفو عن الآخر فأكون قد أحييته. فقال له إبراهيم عند ذلك: «إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأْتِ بها من المغرب» (سورة البقرة 2:258) فبُهت عند ذلك نمرود ولم يُجبه.

وبعد ذلك لما أزف وقت وليمة قومه السنوية خرجوا جميعهم من المدينة، فرجع إبراهيم إلى المدينة لحاجة، وكسر أصنامهم جذاذاً، كما ورد في هذه العبارة الآتية من هذا الكتاب: «إذا هم قد جعلوا طعاماً فوضعوه بين يدي الآلهة وقالوا: إذا كان حين رجوعنا فرجعنا وقد باركت الآلهة في طعامنا أكلنا. فلما نظر إبراهيم إلى الأصنام وإلى ما بين أيديهم من الطعام، قال لهم على طريق الاستهزاء: «ألا تأكلون؟» فلما لم تجبه. قال: «ما لكم لا تنطقون؟ فراغ عليهم ضرباً باليمين» (سورة الصافات 37:91 و92) وجعل يكسرهن بفأس في يده حتى لم يبق إلا الصنم الأكبر، فعلق الفأس في عنقه ثم خرج. فذلك قوله: «فجعلهم جذاذاً إلا كبيراً لهم لعلهم إليه يرجعون» (سورة الأنبياء 21:58) فلما جاء القوم من عبيدهم إلى بيت آلهتهم ورأوها بتلك الحالة: «قالوا من فعل هذا بآلهتنا؟ إنه لمن الظالمين. قالوا: سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم» (سورة الأنبياء 21:59 و60) هو الذي نظنه صنع هذا. فبلغ ذلك نمرود الجبار وأشراف قومه «قالوا: فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون» (سورة الأنبياء 21:61) عليه أنه هو الذي فعل ذلك. وكرهوا أن يأخذوه بغير بيِّنة (قاله قتادة والسُّدي). وقال الضحاك: لعلهم يشهدون بما نصنع به ونعاقبه. فلما أحضروه قالوا له: «أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم؟ قال إبراهيم: بل فعله كبيرهم هذا. غضب من أن تعبدوا معه هذه الأصنام الصغار وهو أكبر منها فكسرهن، فاسألوهم إن كانوا ينطقون» (سورة الأنبياء 21:62 و63) قال النبي: لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات، كلها في الله تعالى. قوله: «إني سقيم» (سورة الصافات 37:89) وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وقوله للملك الذي عرض لسارة: هي أختي. فلما قال لهم إبراهيم ذلك رجعوا إلى نفوسهم فقالوا: «إنكم أنتم الظالمون» (سورة الأنبياء 21:64) هذا الرجل في سؤالكم إياه، وهذه آلهتكم التي فعل بها ما فعل حاضرة، فاسألوها. وذلك قول إبراهيم: «فاسألوهم إن كانوا ينطقون» (سورة الأنبياء 21:63) فلما اتجهت الحجة عليهم لإبراهيم قال لهم: «أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضركم؟ أف لكم ولما تعبدون من دون الله، أفلا تعقلون؟» (سورة الأنبياء 21:66 و67) فلما لزمتهم الحجة وعجزوا عن الجواب «قالوا: حرِّقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين» (الأنبياء 21:68). قال عبد الله بن عمر: إن الذي أشار عليهم بتحريق إبراهيم بالنار رجل من الأكراد. قال شعيب الجبائي: اسمه ضينون، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. فلما أجمع نمرود وقومه على إحراق إبراهيم حبسوه في بيت وبنوا له بنياناً كالحظيرة، فذلك قوله: «قالوا ابنوا له بنياناً فألقوه في الجحيم» (سورة الصافات 37:97) ثم جمعوا له من أصلب الحطب وأضاف الخشب».

ثم ذكر المؤلف كيف أن الله وقى إبراهيم بنعمته من حرارة النار، وخرج منها سالما غانماً. ثم قال: وفي الخبر إن إبراهيم إنما نجا بقوله «حسبي الله، عليه يتوكل المتوكلون» (سورة الزمر 39:38) «حسبنا الله ونعم الوكيل» (سورة آل عمران 3:173). قال الله: «يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم» (سورة الأنبياء 21:69) .

وبما أننا أوردنا هذه القصة بحذافيرها من القرآن والأحاديث علينا أن نوردها من كتب اليهود، ونقارن بين هذه القصة المتواترة بين اليهود وبين ما ذكر أعلاه، ليظهر الفرق بينها:

ورد في «مدراش رباه» (فصل 17 في تفسير تكوين 15:7): «إن تارح كان يصنع الأصنام، فخرج مرة إلى محل ما وأناب عنه إبراهيم في بيعها، فإذا أتى أحد يريد الشراء كان إبراهيم يقول له: كم عمرك؟ فيقول له: عمري خمسون أو ستون سنة، فكان إبراهيم يقول له: ويل لمن كان عمره ستين سنة ويرغب في عبادة الشيء الذي لم يظهر في حيز الوجود إلا منذ أيام قليلة. فكان يعتري الرجل الخجلوينصرف إلى حال سبيله. ومرة أتت امرأة وفي يدها صحن دقيق قمح، وقالت له: يا هذا، ضع هذا أمامهم. فقام وأخذ عصا في يده وكسرها كلها جذاذاً ووضع العصا في يد كبيرهم. فلما أتى أبوه قال له: من فعل بهم كذلك؟ فقال له إبراهيم: لا أخفي عليك شيئاً. إن امرأة أتت ومعها صحن دقيق قمح وقالت لي: يا هذا ضع هذا أمامهم. فوضعته أمامهم، فقال هذا: أريد أن آكل أولاً، وقال ذلك: أريد أنا أن آكل أولاً. فقام كبيرهم وأخذ العصا وكسرهم. فقال له أبوه: لماذا تلفق عليَّ خرافة؟ فهل هذه الأصنام تدرك وتعقل؟ فقال له إبراهيم: ألا تسمع أذناك ما تتكلم به شفتاك؟ فألقى والده القبض عليه وسلَّمه إلى نمرود، فقال له نمرود: فلنعبد النار. فقال له إبراهيم: فلنعبد المياه التي تطفئ النار. فقال له نمرود: فلنعبد المياه: فقال له إبراهيم: إذا كان الأمر كذلك فلنعبد السحاب الذي يجيء بالمياه. فقال له نمرود: فلنعبد السحاب، فقال له إبراهيم: إذا كان الأمر كذلك فلنعبد الرياح التي تسوق السحاب. فقال له نمرود: فلنعبد الرياح. فقال له إبراهيم: فلنعبد الإنسان الذي يقاوم الرياح. فقال له نمرود: إذا كان مرادك المحاولة فأنا لا أعبد إلا النار، وها أنا ألقيك في وسطها، وليأت الله الذي تعبده وينقذك منها. ونزل إبراهيم في أتون النار ونجا».

فإذا قارنا هذه الخرافة اليهودية بالحكاية الواردة في القرآن عن إبراهيم لا نجد بينهما سوى فرقاً طفيفاً جداً، سببه أن محمداً لم يطالع هذه القصة في كتاب ما، بل سمعها شفاهاً من اليهود. ومما يؤيد هذا أن القرآن ذكر أن اسم أب إبراهيم هو «آزر» (سورة الأنعام 6:74) مع أن اسم أبيه في «مدراش رباه» وفي خمسة أسفار موسى هو تارح. ولكن قال يوسابيوس (المؤرخ اليوناني الذي تُرجم تاريخه إلى اللغة السريانية) إن اسم أب إبراهيم هو «آثر» وهو خطأ مبين. والأرجح أن هذا الخطأ نشأ عن تسمية اليهود له في بعض الأحيان «زارح». وبما أن محمداً كان قد سافر إلى بلاد الشام فيمكن أنه سمع بعضهم يسميه «آثر». ولما لم يتذكر صحته تماماً قال إن أبا إبراهيم هو «آزر». ولهذا السبب يكتب الفرس هذا الاسم «آزر» ويلفظونه كأنه مشتق من لغة الفرس القديمة. ومعنى آزر بالفارسية القديمة «نار». وفي اللغة الكلدانية «النار».

قال علماء المسلمين في تفنيد هذا الاعتراض إن ما ذكرتموه يساعدنا مساعدة عظمى على تأييد صحة الإسلام، لأن محمداً لم ينتحل هذه القصة من اليهود ولا من النصارى، بل أنزلها عليه جبريل بالوحي. وبما أن اليهود الذين هم ذرية إبراهيم خليل الله قبلوها، فشهادتهم تؤيد وتصدق على عبارة القرآن في هذه القضية.

غير أن المعترضين المنتقدين ردوا بأنه لم يعتقد بصحة هذه القصة إلا عوام اليهود، أما كل عالِم مدقق فيعرف أن منشأ هذه الخرافة هو الاشتباه واللبس والخطأ، فإن أساس هذه القصة مبني على ما جاء في سفر التكوين، حيث قال الله لإبراهيم: «أنا الرب الذي أخرجك من أور الكلدانيين» (تكوين 15:7). ومعنى أور بلغة البابليين القديمة «مدينة». وجاءت جزءاً من كلمة «أورشليم» ومعناها «مدينة شليم» أي «مدينة إله السلام». واسم أور الكلدانيين الآن «المغيَّر» وكان إبراهيم أولاً ساكناً في هذه المدينة. ولكن توجد في اللغة العبرية والأرامية والكلدانية لفظة أخرى وهي «أَوْر» تشبه «أور» في النطق والكتابة، غير أن معنى «أور» في اللغة العبرية «النور».

وبعد تدوين التوراة بسنين عديدة جاء مفسرٌ يهودي، اسمه يوناثان بن عزييل، لم تكن له أدنى معرفة بلغة البابليين القديمة، وأخذ يترجم هذه الآية إلى اللغة الكلدانية، فقال: «أنا الرب الذي أخرجك من تنور نار الكلدانيين»! وقال هذا المفسر الجاهل في تفسيره على تكوين 11:38 «لما طرح نمرود إبراهيم في أتون النار لامتناعه عن السجود لأصنامه لم يؤذن للنار أن تضره».

ومثَل هذا المفسر في الخطأ الذي ارتكبه كمثَل إنسان قرأ في إحدى الجرائد الإنجليزية أن «الرات» أي الفأر نقل الكوليرا إلى المركب. فبدل أن يترجم «الرات» بالفأر (لأن هذا هو معناها باللغة الإنجليزية) ظن أن «الرات» هو الرجل العظيم، فقال إن الرجل العظيم نقل الكوليرا.. إلخ، لأن «الرات» باللغة العربية هي الرجل العظيم، ولم يدر أن الكلمة التي ترجمها أجنبية. فلا عجب من وقوع الجاهل في مثل هذا الغلط الذي بُنيت عليه القصة.

ولكن هل يمكن أن نصدق أن النبي الحقيقي يتوهَّم هذه الخرافة ويدوِّنها في كتابه ثم يدَّعي أن كتابه منزَل من عند الله، وأن الدليل على ذلك هو أنه يتطابق مع كتب اليهود الموحى بها؟ وبصرف النظر عن كل ذلك فنمرود الجبار (حسب كلام موسى الوارد في سفر التكوين) لم يكن في أيام إبراهيم، بل كان قبل مولد إبراهيم بأجيال عديدة. ومع أن اسم نمرود ورد في الأحاديث والتفاسير الإسلامية، إلا أنه لم يرد في هذه القصة الواردة في القرآن ذاته. وواضحٌ أن الذي أدخل اسم نمرود في القصة جاهل بالكتابة والتاريخ، شأنه شأن من يقول إن الإسكندر ذا القرنين ألقى عثمان أحد سلاطين العثمانيين في النار، ولم يقل ذلك إلا لأنه يجهل مقدار الزمان بين الإسكندر وعثمان، ولأنه لم يدرِ أن عثمان لم يُلقَ في النار مطلقاً.

 

(3) حكاية ملكة سبا وكيفية مجيئها إلى سليمان:

إذا قارنا بين ما ورد في القرآن بخصوص بلقيس ملكة سبا وما ورد في «الترجوم الثاني عن كتاب أستير» نجد أن اليهود هم الذين أبلغوا محمداً هذه القصة فوقعت عنده موقعاً حسناً، فانشرح منها حتى أدخلها في القرآن، فقال: «وحُشر لسليمان جنوده من الجن والأنس والطير فهم يوزعون.. وتفقد الطير، فقال: مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين؟ لأعذِّبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين. فمكث غير بعيد فقال: أُحطت بما لم تُحط به، وجئتك من سبإ بنبأ يقين. إني وجدت امرأة تملكهم، وأُوتيَت من كل شيء، ولها عرش عظيم. وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله، وزيَّن لهم الشيطان أعمالهم فصدَّهم عن السبيل، فهم لا يهتدون. ألا يسجدون لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون. الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم. قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين. اذهب بكتابي هذا فأَلقه إليهم ثم تولَّ عنهم فانظر ماذا يرجعون. قالت يا أيها الملأ ألقيَ إليَّ كتابٌ كريم. إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم. ألا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين. قالت: يا أيها الملأ أفتوني في أمري، ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون. قالوا: نحن أولو قوة وأولو بأس شديد، والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين. قالت: إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزَّة أهلها أذلة، وكذلك يفعلون. وإني مُرسِلة إليهم بهدية فناظرة بما يرجع المرسلون. فلما جاء سليمان قال: أتمدونني بمال؟ فما آتاني الله خير مما آتاكم، بل أنتم بهديتكم تفرحون. ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قِبل لهم بها، ولنخرجنَّهم منها أذلة وهم صاغرون. قال: يا أيها الملأ، أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين؟ قال عفريت من الجن: أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك، وإني عليه لقوي أمين. قال الذي عنده علم من الكتاب: أنا آتيك به قبل أن يرتدَّ إليك طرفك. فلما رآه مستقراً عنده قال: هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر. ومن شكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن ربي غني كريم. قال: نكِّروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون. فلما جاءت قيل: أهكذا عرشك؟ قالت: كأنه هو. وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين. وصدَّها ما كانت تعبد من دون الله أنها كانت من قوم كافرين. قيل لها: ادخلي الصرح. فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها. قال: إنه صرح ممرد من قوارير. قالت: ربي إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين» (سورة النمل 27:17 و 20-44).

هذا ما قاله القرآن عن ملكة سبا. وما ورد في هذه السورة عن العرش العظيم يختلف قليلاً عما ورد في الترجوم الذي ذكرناه، ففيه قيل إن صاحب هذا العرش العظيم كان الملك سليمان، وإنه لا يوجد عرش مثله في مملكة أخرى، لأنه كان له ست درجات ذهب، وعلى كل درجة اثنا عشر أسداً من ذهب، واثنا عشر نسراً من ذهب. وكان يوجد خلافها أربعة وعشرون نسراً أخرى فوق هذا العرش العجيب تلقي ظلها على رأس الملك. ومتى أراد سليمان التوجُّه إلى مكان ما كانت تنزل هذه النسور القوية وتصعد بعرشه وتحمله إلى حيث أراد. فكانت تلك النسور (حسب قول الترجوم) تؤدي الوظيفة التي قام بها عفريت الجن الوارد ذكره في القرآن.

أما ما ورد في «الترجوم» عن ملكة سبا ومجيئها إلى سليمان، والرسالة التي أرسلها إليها الملك وغيره فتوجد مشابهة عجيبة بينه وبين القرآن. غير أن «الترجوم» يسمّي حامل رسالة سليمان ديك الصحراء والقرآن يسميه «الهدهد». مرة أخرى لما انشرح قلب سليمان بخمرهِ، أمر بإحضار حيوانات الصحراء وطيور الهواء وزحافات الأرض والجن والأرواح والعفاريت لترقص أمامه، ليُظهر عظمته لجميع الملوك الذين كانوا خاضعين خاشعين أمامه. فاستدعى كتبة الملك بأسمائهم، فأتوا إليه ما عدا المسجونين والأسرى والرجل الذي فُوِّضت له حراستهم. وكان ديك الصحراء في تلك الساعة يمرح بين الطيور ولم يوجد، فأمر الملك أن يحضروه بالقوة، وهمَّ بإهلاكه، فرجع ديك الصحراء ووقف أمام حضرة الملك سليمان وقال له: «اسمع يا مولاي، ملك الأرض، وأَمِل أذنك واسمع أقوالي. ألم تمض ثلاثة أشهر من حين ما تفكرت في قلبي وصممت تصميماً أكيداً في نفسي أن لا آكل ولا أشرب ماء قبل أن أرى كل العالم وأطير فيه. وقلت: ما هي الجهة أو ما هي المملكة غير المطيعة لسيدي الملك؟ فشاهدت ورأيت مدينة حصينة اسمها قيطور في أرض شرقية، وترابها أثقل من الذهب والفضة كزبالة في الأسواق، وقد غُرست فيها الأشجار من البدء، وهم شاربون الماء من جنة عدن. ويوجد جماهير يحملون أكاليل على رؤوسهم فيها نباتات من جنة عدن لأنها قريبة منها. ويعرفون الرمي بالقوس، ولكن لا يمكن أن يقتلوا بها. وتحكمهم جميعهم امرأة اسمها ملكة سبا. فإذا تعلقت إرادة مولاي الملك فليمنطق حقوي هذا الشخص وأرتفع وأصعد إلى حصن قيطور إلى مدينة سبا، وأنا أقيِّد ملوكهم بالسلاسل وأشرافهم بأغلال الحديد، وأحضرهم إلى سيديالملك».

فوقع هذا الكلام عند الملك موقعاً حسناً، فدُعي كتبة الملك وكتبوا كتاباً ربطوه بجناحي ديك الصحراء، فقام وارتفع إلى السماء وربط تاجه وتقوى وطار بين الطيور. فطاروا خلفه وتوجهوا إلى قلعة قيطور إلى مدينة سبا. واتفق في الفجر أن ملكة سبا كانت خارجة إلى البحر للعبادة، فحجبت الطيور الشمس. فوضعت يدها على ثيابها ومزقتها ودُهشت واضطربت. ولما كانت مضطربة دنا منها ديك الصحراء، فرأت كتاباً مربوطاً في جناحه ففتحته وقرأته، وهاك ما كتب فيه: «مني أنا الملك سليمان، سلام لأمرائك. لأنك تعرفين أن القدوس المبارك جعلني ملكاً على وحوش الصحراء وعلى طيور الهواء وعلى الجن وعلى الأرواح وعلى العفاريت وكل ملوك الشرق والغرب والجنوب والشمال، يأتون للسؤال عن سلامتي. فإذا أردتِ وأتيتِ للسؤال عن صحتي فحسناً تفعلين، وأنا أجعلك أعظم من جميع الملوك الذي يخرون سُجَّداً أمامي. وإذا لم تطيعي ولم تأتي للسؤال عن صحتي أرسل عليك ملوكاً وجنوداً وفرساناً. وإذا قلتِ: ما هم الملوك والجنود والفرسان الذين عند الملك سليمان؟ إن حيوانات الصحراء هم ملوك وجنود وفرسان. وإذا قلت: ما هي الفرسان؟ قلت إن طيور الهواء هي فرسان، وجيوشي الأرواح والجن والعفاريت. هم الجنود الذين يخنقونكم في فرشكم في داخل بيوتكم. حيوانات الصحراء يقتلونكم في الخلاء. طيور السماء تأكل لحمكم منكم».

فلما سمعت ملكة سبا أقوال الكتاب ألقت ثانية يدها على ثيابها ومزقتها، وأرسلت واستدعت الرؤساء والأمراء وقالت لهم: ألم تعرفوا ما أرسله إليَّ الملك سليمان؟ فأجابوا: لا نعرف الملك سليمان، ولا نعتد بمملكته، ولا نحسب له حساباً. فلم تصغِ إلى أقوالهم بل أرسلت واستدعت كل مراكب البحر وشحنتها هدايا وجواهر وحجارة ثمينة، وأرسلت إليه ستة آلاف ولداً وابنة وكلهم ولدوا في سنة واحدة وشهر واحد ويوم واحد وساعة واحدة، وكانوا كلهم لابسين ثياباً أرجوانية. ثم كتبت كتاباً أرسلته إلى الملك سليمان على أيديهم وهذا نصه:

«من قلعة قيطور إلى أرض إسرائيل، سفر سبع سنين. إنه بواسطة صلواتك وبواسطة استغاثاتك التي ألتمسها منك سآتي إليك بعد ثلاث سنين». فحدث بعد ثلاث سنين أن أتت ملكة سبا إلى الملك سليمان. ولما سمع أنها أتت أرسل إليها بنايا بن يهوياداع الذي كان كالفجر الذي يبزغ في الصباح، وكان يشبه كوكب الجلال (أي الزهرة) التي تتلألأ وهي ثابتة بين الكواكب، ويشبه السوسن المغروس على مجاري المياه. ولما رأت ملكة سبا بنايا بن يهوياداع نزلت من العربة، فقال لها: لماذا نزلت من عربتك؟ فأجابته: ألست أنت الملك سليمان؟ فأجابها: لست أنا الملك سليمان بل أحد خدامه الواقفين أمامه. ففي الحال التفتت إلى خلفها ونطقت بمثل للأمراء وهو: إذا لم يظهر أمامك الأسد فقد رأيتم ذريته. فإذا لم تروا الملك سليمان فقد شاهدتم جمال شخص واقف أمامه. فأتى بنايا بن يهوياداع أمام الملك. ولما بلغ الملك أنها أتت أمامه، قام وذهب وجلس في بيت بلوري. ولما رأت ملكة سبا أن الملك جالس في بيت بلوري توهمت في قلبها قائلة: إن الملك جالس في الماء، فرفعت ثوبها لتعبر، فرأى أن لها شعراً على الساقين. فقال لها: إن جمالك هو جمال النساء وشعرك هو شعر الرجل، فالشعر هو حيلة الرجل ولكنه يعيب المرأة. فقالت: يا مولاي الملك، سأنطق لك بثلاثة أمثال. فإذا فسَّرتها لي فأعرف أنك حكيم، وإلا كنت كسائر الناس.. (ففسر لها الملك سليمان الثلاثة الأمثال، فقالت: يتبارك الرب إلهك الذي سُرَّ بك وأجلسك على عرش المملكة لتجري قضاءً وعدلاً. وأعطت للملك ذهباً وفضة، وأعطاها الملك كل ما اشتهت».

فترى في هذه القصة اليهودية أنه ذكر فيها بعض الأمثال التي طلبت ملكة سبا من سليمان حلها. ومع أنه لم يرد لها ذكر في القرآن إلا أنها ذكرت في الأحاديث. وبما أن القرآن لم يستوفِ وصف ساقي الملكة، وجب استيفاء تكملتها من الأحاديث. وهذا ما جاء في كتاب «عرائس المجالس» (ص 438)، فقد ذكر أنه لما أرادت ملكة سبا الدخول إلى قصر سليمان وتوهمت أن البلور ماء، كشفت عن ساقيها لتخوضه إلى سليمان. فنظر سليمان فإذا هي أحسن الناس ساقاً وقدماً، إلا أنها كانت شعراء الساقين. فصرف بصره عنها وناداها أنه صرح ممرد من قوارير.

ولقصة ملكة سبا (وفي العبرية شبا) أساس حقيقي، فقد جاءت قصة زيارتها إلى سليمان في الكتاب المقدس، فقال: «وسمعت ملكة سبا بخبر سليمان لمجد الرب فأتت لتمتحنه بمسائل. فأتت إلى أورشليم بموكب عظيم جداً بجمال حاملة أطياباً وذهباً كثيراً جداً وحجارة كريمة، وأتت إلى سليمان وكلمته بكل ما كان بقلبها. فأخبرها سليمان بكل كلامها. لم يكن أمراً مخفياً عن الملك لم يخبرها به. فلما رأت ملكة سبا كل حكمة سليمان والبيت الذي بناه وطعام مائدته ومجلس عبيده وموقف خدامه وملابسهم وسُقاته ومحرقاته التي كان يُصعدها في بيت الرب لم يبق فيها روحٌ بعد. فقالت للملك: صحيحاً كان الخبر الذي سمعتُه في أرضي عن أمورك وعن حكمتك، ولم أصدق الأخبار حتى جئت وأبصرت عيناي. فهوذا النصف لم أُخبَر به. زدتَ حكمة وصلاحاً على الخبر الذي سمعته. طوبى لرجالك وطوبى لعبيدك هؤلاء الواقفين أمامك دائماً السامعين حكمتك. ليكن مباركاً الرب إلهك الذي سُرَّ بك وجعلك على كرسي إسرائيل، لأن الرب أحب إسرائيل إلى الأبد. جعلك ملكاً لتُجري حكماً وبراً. وأعطت الملك مئة وعشرين وزنة ذهب وأطياباً كثيرة جداً وحجارة كريمة لم يأتِ بعد مثل ذلك الطيب في الكثرة الذي أعطته ملكة سبا للملك سليمان» (1ملوك 10:1-10 و2أخبار الأيام 9:5).

فهذا هو أصل القصة، وما زاد على ذلك فهو زيادات وهمية خرافية، كما قرر علماء اليهود أنفسهم. نعم وجد أيضاً في سفري الملوك وأخبار الأيام شيء عن عرش سليمان الرفيع، ولكن لم يرد شيء عن حمله ونقله. وما ورد في القرآن بخصوص حكم سليمان على الجن والعفاريت يطابق ما ورد في كتاب «الترجوم» المذكور سابقاً. ولكن هذه الرواية وهمية، فقد قال علماء اليهود إن هذا المفسر بنى أوهامه على ما اقترفه من الخطأ في ترجمة كلمتين عبريتين هما «شِدّاه وشِدّوْتْ» من سفر الجامعة 2:8. ومعناهما «سيدة وسيدات» لأنه لما كان يندر وجود هاتين الكلمتين في العبرية، خلط هذا المفسر الجاهل بينهما لعدم معرفته بمعناهما الصحيح، فاشتبهتا عليه بكلمتين فسَّرهما بالجن. وكان له إلمام بالكلمتين الدالتين على الجن (وهما شِدو، وشِديم). وكل من تحرى قصة ملكة سبا التي ترجمناها من كتاب «الترجوم» يظهر له بلا شك أن هذه الخرافة تشبه الحكايات الواردة في كتاب ألف ليلة وليلة شبهاً كثيراً. ولكن لما لم يكن محمد عارفاً بذلك، وقد سمع هذه الرواية من اليهود، توهَّم أنهم أخذوها عن التوراة وتلوها عليه، فأوردها في القرآن.

(4) قصة هاروت وماروت:

مع أن كثيراً من قصص القرآن مستعارة من الخرافات اليهودية، نكتفي بسرد قصة «هاروت وماروت» قبل أن ننتقل إلى الكلام على ما هو أهم من ذلك. ونوردها أولاً من القرآن والأحاديث، ثم ننقل ما ورد منها في كتب اليهود، ونقارنها بعد ذلك بما ورد في القرآن والأحاديث.

قال القرآن: «وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا. يعلّمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا فتنة فلا تكفر» (سورة البقرة 2:102). وقد ورد في «عرائس المجالس» في تفسير هذه الآية:

«قال المفسرون إن الملائكة لما رأوا ما يصعد إلى السماء من أعمال بني آدم الخبيثة (وذلك في زمن إدريس النبي) عيَّروهم بذلك وأنكروا عليهم، وقالوا لله: إن هؤلاء الذين جعلتهم خلفاء في الأرض واخترتهم يعصونك. فقال تعالى: لو أنزلتُكم إلى الأرض وركَّبتُ فيكم ما ركبت فيهم لفعلتم مثل ما فعلوا. قالوا: سبحانك ربنا ما كان ينبغي أن نعصيك. قال الله: اختاروا مَلَكين من خياركم أُهبِطهما إلى الأرض. فاختاروا هاروت وماروت، وكانا من أصلح الملائكة وأعبدهم. قال الكلبي: قال الله: اختاروا ثلاثة منكم. فاختاروا عزا وهو هاروت وعزابيا وهو ماروت وعزرائيل. وإنما غيَّر اسمهما لما اقترفا من الذنب، كما غيَّر الله اسم إبليس (وكان اسمه عزازيل). فركَّب الله فيهم الشهوة التي ركبها في بني آدم وأَهبطهم إلى الأرض، وأمرهم أن يحكموا بين الناس بالحق، ونهاهم عن الشِّرك والقتل بغير الحق والزنا وشرب الخمر. فأما عزرائيل فإنه لما وقعت الشهوة في قلبه استقال ربه، وسأله أن يرفعه إلى السماء. فأقاله ورفعه. وسجد أربعين سنة ثم رفع رأسه ولم يزل بعد ذلك مطأطأ رأسه حياءً من الله تعالى. وأما الآخران فإنهما ثبتا على ذلك يقضيان بين الناس يومهما، فإذا أمسيا ذكرا اسم الله الأعظم، وصعدا إلى السماء. قال قتادة: فما مرَّ عليهما شهر حتى افتتنا، وذلك أنه اختصمت إليهما ذات يوم «الزهرة» وكانت من أجمل النساء. قال عليٌّ: كانت من أهل فارس، وكانت ملكة في بلدها. فلما رأياها أخذت بقلبيهما، فراوداها عن نفسها فأبت وانصرفت. ثم عادت في اليوم الثاني، ففعلاً مثل ذلك، فقالت: لا، إلا أن تعبدا ما أعبد وتصلِّيا لهذا الصنم وتقتلا النفس وتشربا الخمر. فقالا: لا سبيل إلى هذه الأشياء، فإن الله قد نهانا عنها. فانصرفت ثم عادت في اليوم الثالث ومعها قدح من خمر، وفي نفسها من المَيل إليهما ما فيها، فراوداها عن نفسها فأبت، وعرضت عليهما ما قالت بالأمس، فقالا: الصلاة لغير الله أمر عظيم، وقتل النفس عظيم، وأهون الثلاثة شرب الخمر. فشربا الخمر فانتشيا ووقعا بالمرأة وزنيا بها، فرآهما إنسان فقتلاه.. قال الربيع بن أنس: وسجدا للصنم فمسخ الله الزهرة كوكباً. وقال عليٌّ والسعدي والكلبي إنها قالت: لا تدركاني حتى تعلّماني الذي تصعدان به إلى السماء. فقالا: نصعد باسم الله الأكبر. فقالت: فما أنتما بمدركيَّ حتى تعلمانيه. قال أحدهما لصاحبه: علِّمها، فقال: إني أخاف الله. فقال الآخر: فأين رحمة الله؟ فعلَّماها ذلك فتكلمت به وصعدت إلى السماء، فمسخها الله كوكباً».

فإذا أخذنا في البحث والتحري عن أصل هذه القصة وجدناها في موضعين أو في ثلاثة مواضع من تلمود اليهود، ولا سيما في «مدراش يَلْكوت» (فصل 47) وهاك نص ترجمتها:

«استفهم تلاميذ يوسف الربانيمن أستاذهم عن عزائيل، فقال لهم: لما قام جيل الطوفان (يعني القوم الذين كانوا موجودين في عصر طوفان نوح) ودانوا بالعبادة الباطلة، سخط عليهم القدوس تبارك اسمه. فقام مَلَكان «شمحزاي» و«عزائيل» وقالا بحضرته: يا رب العالم، ألم نقل لك بحضرتك لما خلقت عالمك: من هو الإنسان حتى تذكره؟ (مزمور 8:4). فقال لهما: وأما العالم فماذا يحصل له؟ فقالا له: يا رب العالم نتسلط عليه. فقال لهما: إنه مكشوف ومعلوم بأنه إذا تسلطتم على الأرض تتسلط عليكم الشهوة الردية، وتكونون أكثر من بني آدم عناداً. فقالا له: ائذن لنا أن نسكن مع الخلائق، وترى كيف نقدس اسمك. فقالا لهما: اهبطا واسكنا معهم. فنظر شمحزاي صبية واسمها إسطهر (أستير) فشخص وقال لها: أطيعيني. فقالت له: لا أصغي لك ما لم تعلمني الاسم المختص (بالله) الذي في ساعة ذكرك إياه أصعد إلى الفلك. فعلمها إياه، فذكرته وصعدت إلى الفلك أيضاً ولم تدنِّس عرضها. قال القدوس تبارك اسمه: بما أنها نزهت نفسها عن التجاوز فاذهبوا واجعلوها بين السبعة الكواكب لتكونوا طاهرين من جهتها إلى الأبد. فوُضعت بين الثريا. وتنجَّسا مع بنات آدم اللواتي كنَّ جميلات ولم يقدرا على قمع شهوتهما، فقاما واتخذا زوجات وولدا ولدين (هوآء) و(هيآء). فاستعان عزائيل بالحلي المتنوعة وأنواع زخرفات النساء المبهرجة على إغواء بني آدم وإغرائهم على اقتراف التعدّي. (ومما يجب التنبيه إليه أن عزرائيل الذي تقدم ذكره في الأحاديث المذكورة آنفاً هو ذات عزائيل المذكور في التلمود).

ومن قارن هاتين القصتين يرى أنهما قصة واحدة. غاية الأمر أن الحديث قال إن الملاكين اللذين أخطئا هما هاروت وماروت، مع اعترافه بأنهما كانا يسميان في الأصل باسمين آخرين. أما في «مدارش يلكوت» فتسمَّيا بشمحزاي وعزائيل. ولكن إذا سأل سائل: مِن أين استُعير الاسم الوارد في القرآن والأحاديث؟ قلنا: إننا نرى بعد التحري أن هاروت وماروت هما اسما إلهين قديمين كاذبين كانا يعبدهما الأرمن في الأزمنة القديمة. وقد ذكر مؤرخو الأرمن أن الأرمن كانوا يعبدون إلهين اسمهما باللغة الأرمنية «هوروت وموروت» وهاك نص عبارة أحد مؤرخي الأرمن:

«هوروت وموروت كانا بلا شك من أعوان الإلهة «اسبانداراميت» وهما بطلا جبل «مازيس» و«أمينابيغ» أيضاً. وربما كانت توجد آلهة أخرى لا علم لنا بها إلى الآن، وكانوا من أعظم المساعدين على تقوية الأرض وجعلها مخصبة كثيرة الكسب».

ولإيضاح هذه الجملة نقول إن «اسبانداراميت» كانت الإلهة التي عبدها الفرس أيضاً لأن «الزردشتيين» كانوا يعتقدون أنها روح الأرض، وأنها سبب كل ما نبت على الأرض من المحصولات الطيبة والأثمار اليانعة. وكان سكان أرمينيا يسمون إله الكروم «أمينابيغ» وقالوا إن هوروت وموروت هما الإلهان المساعدان لإلهة الأرض إذ توهموا أنهما الروحان المتسلطان على الرياح، وهما اللذان يحملان ويسخران الرياح التي كانت تجمع السحاب الذي يأتي بالمطر ليصدم قمة جبل أراراط الشامخة فتهطل الأمطار على الأرض، وحينئذ تقوى الأرض على إنبات النباتات وإخراج المحصولات.. فيتضح من هذا أن هوروت وموروت كانا في الأصل روحين للرياح، ومما يؤيد ذلك أن كثيراً ما ذكر في كتب الهنود القديمة كلمة «المرتون». فإن قدماء الهند كانوا يعتقدون أنهم آلهة الزوابع القاصفة والرياح العاصفة. وبناءً على ذلك انتقلت كلمة «مرت» إلى اللغة الأرمنية وصارت «موروت». فتوهَّم الأرمن أن موروت مشتقَّة من كلمة «مور» باللغة الأرمنية، وهي مضاف إليه لكلمة معناها «أم» ثم وضعوا لفظة «هور» في مقابلة كلمة «مور» لحصول المناسبة، فإن معنى «هور» بلغتهم مضاف إليه لكلمة معناها «أب». وبهذه الكيفية صاغوا كلمة هوروت وموروت. وهذا هو أصل وضعهما ومنشئهما. فيكون المقصود من قوله إن هذين الملكين هبطا من السماء ومالا إلى التناسل أن هذين الروحين اللذين في قبضتهما الرياح ساعدا الأرض على إنبات المحصولات وإخراج الثمار بتسخيرهما الرياح التي كانت تسوق سحب الأمطار.

أما «اسطهر» وهو اسم الصبية الواردة في القصة اليهودية فهي ذات «عشتاروت» إحدى الآلهة الكاذبة التي كان يعبدها عبَدة الأصنام القدماء، وهي الزهرة، أي الكوب السيار التي ورد اسمها في الأحاديث التي ذكرناها آنفاً. وكان أهل بابل في قديم الزمان يعتقدون أن هذا الكوكب السيار إلهة، فكان كل سكان بابل وسوريا يعبدونها، لأنهم زعموا أنها رئيسة التوليد وإنتاج الذرية، وتوهموا أيضاً أنها كانت تفرح من كل أنواع الفسق والفجور. ووجدت كلمة «أشتر» وهو اسمها منقوش في قوالب أجر قديمة اكتُشفت في بلاد ما بين النهرين، ووجدت كتابة منقوشة بالأحرف الأشورية الأثرية القديمة على قوالب اللِّبن المشوي، فإن بعض هذه القوالب كانت عند القدماء بمنزلة كتبهم، ووُجدت فيها روايات كثيرة عن «أشتر» أي الزهرة. وهاك ترجمة قصة منها، تُرجمت من اللغة البابلية القديمة، فأفادتنا عن شخص وهمي لا وجود له اسمه «جلجميش» عشقته «أشتر» ولكنه لم يمل إليها:

«لبس جلجميش تاجه. ولما أرادت الإلهة أشتر أن تستميله إليها قالت له: قبِّلني يا جلجميش، ويا ليتك تكون عريسي. أعطني ثمرك عطية، وليتك كنت بعلي وأنا زوجة لك فكنت أركب عربة من لازورد وذهب وعجلتاها من ذهب وعريشاها من الماس، وكنا نقطر البغال العظيمة إليها يوماً. فادخل إلى بيتنا مع عطر السرور. غير أن جلجميش استهزأ بأشتر وأنَّبها ولم يرضَ أن يتخذها زوجة له». ثم ذكر في هذه القوالب باقي القصة ونصها:

«فاغتاظت الإلهة أشتر وصعدت إلى السموات ومثلت أمام الإله أنو». وهو إله السماء الذي كان يعبده البابليون، وكانوا يعتقدون أن اشتر هي ابنته.

من الواضح أن هذه القصة القديمة المتداولة بين عبدة الأصنام البابليين ذكرت صعود «أشتر» (أي الزهرة) إلى السماء، كما ذُكر صعودها في الأحاديث الإسلامية وفي التفسير اليهودي الذي استشهدنا بعبارته. وليس ذلك فقط بل ورد في الكتاب الهندي المكتوب بلغة سانسكريت القديمة واسمه «المهابهارته» ما يشبه هذه الخرافة، إذ قيل فيه إن روحين اسمهما «سُند» و«أُبْسُند» نالا في قديم الزمان من الإله «برهما» فضلاً واستحقاقاً بواسطة تقشفهما وزهدهما. فتسلطا على السماء والأرض واستوليا عليها استيلاء. فداخل هذا الإله الجزع لئلا تخرج جميع أملاكه من يده ما لم يقتل خصميه اللذين شاطراه الملك. وليتوصَّل إلى إهلاكهما خلف حورية اسمها «تلوتما» ووهبها لهما. ولما شاهدها هذان الأخان أخذها «سند» من يدها اليمنى وأخذها «أبسند» من يدها اليسرى، ورغب كل منهما أن يتَّخذها قرينة له. فنشأ عن ذلك بين الأخين العداوة والبغضاء، واستفحل الشر حتى اقتتلا فقُتلا، فبارك الإله «برهما» الحورية «تلوتما» وأثنى عليها ثناءً جميلاً، وقال لها: ستحيطين بجميع الدنيا التي تشرق عليها الشمس، ولا يمكن لأحد أن يفتح عينيه فيك لعظم بهائك وسنا أشعة زينتك وتفوُّق جمالك الرائع الباهر. (كتاب «المهابهارته» في باب رواية «سُند وأُبسند وباكهيانم» أي قصة سند وأبسند).

فنرى أنه ورد في هذه الخرافة ذكر الصعود إلى الفلك، والحورية التي كان جمالها رائعاً وباهراً، ولو أنها تختلف اختلافاً قليلاً عن الزهرة وأشتر، فالزهرة أشتر (حسب الرواية اليهودية والأحاديث الإسلامية) كانت على الأرض قبل صعودها إلى الفلك. ولكنها حسب الرواية الهندية البابلية كانت ذات صلة بالسماء من أول الأمر، لاعتقادهم أن أشتر كانت إلهة، وكذلك «تلوتما» الحورية. وهنالك اختلاف آخر وهو أن الروحين في الرواية الهندية اللذين عشقاها كان أولاً على الأرض، ولكنهما في الرواية اليهودية والإسلامية هبطا من الفلك. وقال الهنود إن هذين الأخين تناسلا من إلهة اسمها «دتي» فيكون أصلهما حسب الرواية الهندية أيضاً من السماء. والحاصل أن جميع هذه القصص تشبه بعضها من وجوه كثيرة، وكانت سائدة بين الوثنيين في الأزمنة القديمة.

وقال المحققون إنه لما كان اليهود يميلون إلى الخرافات، أخذوا من عبدة أصنام بابل قصة «أشتر» ولما نسوا أصلها اعتقدوا في الأزمنة الحديثة أنها حكاية صحيحة، فدوَّنوها في التلمود بالصورة التي وجدناها عليها. ولما سمع المسلمون هذه الحكاية من اليهود ولم يعرفوا أنها خرافة، دوَّنوها مختصرة في القرآن كأنها صحيحة، وأوردوها مفصلة في الأحاديث.

وإذا سأل سائل: لماذا قبلها اليهود؟ قلنا إن السبب خطؤهم في فهم معنى فقرة في سفر التكوين. وكل ما كتب في التلمود عن معاشرة الملائكة للنساء الآدميات ناشئ عن تفسير تلك الفقرة، وهي: «وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الأرض ووُلد لهم بنات أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات، فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا.. كان في الأرض طغاة (في العبرية: النفيليم) في تلك الأيام. وبعد ذلك أيضاً إذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولاداً. هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم» (تكوين 6:1 و2 و4). والقول «أبناء الله» يصف الأتقياء الصالحين الذين تناسلوا من شيث، ابن آدم الثالث. والأرجح أن معنى كلمة نفيل (وجمعها «نفيليم» في العبرية) هو مثل قولنا في اللغة العربية «نبيل» وجمعها نبلاء. وقال البعض إنها تدل على العتاة الذين يتعدّون على الضعاف ويظلمونهم. وترجم كتاب «ترجوم أونتلوس» كلمة «نفيليم» الواردة في الآية المتقدمة بكلمة كلدية معناها بالعربية «الجبابرة» مشتقَّة من أصل هذه الكلمة العبرية، ولا شك أن هذا هو الصواب. ولكن لما كان أحد مفسري قدماء اليهود (واسمه يوناثان بن عزئيل) يجهل معنى كلمة «نفيليم» العبرية النادرة الاستعمال توهَّم أن معناها «الملائكة الساقطين» ففسَّر آية تكوين 4:6 بأن شمحزاي وعزئيل هبطا من السماء وكانا على الأرض في تلك الأيام. فمن هنا نرى أن منشأ هذه الخرافة من أولها إلى آخرها عن أشتر المذكورة في «مدراش يلكوت» هو الخطأ الذي اقترفه هذا الرجل وغيره ممن نحا نحوه، فقبلوا إحدى خرافات عبدة الأصنام البابليين جهلاً، وتوهموا أنها تبين معنى آية في التوراة التبس عليهم معناها فلم يفهموها. ومع ذلك فلا عذر لهم، فإن أحد علماء اليهود المفسرين، وهو أقدم منهم عهداً وزمناً وأرسخ منهم قدماً، فسَّر هذه اللفظة وشرح معناها الحقيقي الذي التبس عليهم.

وبما أن جُهّال اليهود كانوا يميلون إلى الخرافات، وكانوا مولعين بذكر الغرائب، فلا عجب إذا وجدنا في بعض كتبهم قصة سقوط الملائكة وخطيتهم بهذه الكيفية. ففي بدء الأمر قال اليهود إن ملاكين هبطا وسقطا، ولكنهم بعد ذلك زادوا عددهم من حين إلى آخر في الخرافات المتواترة بينهم. وفي آخر الأمر ورد في الكتاب الملفَّق المنسوب كذباً وزوراً إلى النبي أخنوخ أن عدد الملائكة الذين هبطوا من السماء بلغ 200، وسبب هبوطهم جميعاً أنهم اقترفوا الفسق مع النساء. ونورد هنا الفقرة الآتية من «كتاب أخنوخ» المشار إليه، مترجمة من اللغة الحبشية، لأن الأصل اليوناني لهذا الكتاب وصل إلينا بحالة مهشمة ناقصة. وإليك ترجمة هذه العبارة:

«رأت (بنات الناس) أن الملائكة وهم أبناء السموات قد افتتنوا بهن، وقالوا بعضهم لبعض: تعالوا نأخذ لأنفسنا زوجات من بنات الناس ونخلف أولاداً لأنفسنا. فقال لهم سميازا (أي شمحزاي) الذي هو رئيسهم.. وعلَّم إزازيل (أي عزازيل) بني آدم صناعة السيوف والخناجر والتروس والدروع لصدورهم، وأراهم وأعقابهم ومصنوعاتهم (يعني الأساور والحلي) واستعمال الكحل لتزجيج أهداب عيونهم، واستعمل جميع أنواع الصباغة المتنوعة وعملة الدنيا (أي النقود التي يتعامل بها الإنسان في هذه الدنيا)». (كتاب أخنوخ فصل 6 آية 2 و3 وفصل 8 آية 1).

ومعروف أن مسألة تعليم الملائكة للناس الأمور المذكورة آنفاً وردت في البقرة 2:102، حيث قيل: «فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم». ويقصد بالملاكين المشار إليهما هنا «هاروت وماروت». غير أن القرآن انتحل ذكر تعليم الملاكين للناس أيضاً مما ورد في «مدراش يلكوت» حيث ذكر أن عزازيل استعان بالحلي المتنوعة وأنواع زخرفات النساء المبهجة لإغواء بني آدم على اقتراف الفجور.

فما قلناه عن هاروت وماروت يجوز أن يكون برهاناً كافياً يؤيد أن هذه القصة أيضاً مأخوذة من كتب اليهود.

(5) قصص وفروض اقتبسها المسلمون من اليهود: لولا ضيق المقام لأوردنا من القرآن قصصاً شتى يسهل علينا البحث فيها وإقامة الدليل على أنها لم تكن مطابقة لنصوص التوراة، بل موافقة للخرافات التي ألَّفها كَتَبة اليهود. مثلاً أورد القرآن في قصص يوسف وداود وشاول (طالوت) أموراً شتى لم يرد لها ذكر في العهد القديم، ولكنها وردت في خرافات اليهود، منها ما ورد في الأعراف 7:171 «وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما أتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون». وورد مثله في البقرة 2:63 و93 ومعنى ذلك أن الله سبحانه شرع في إعطاء التوراة لبني إسرائيل، ولما رأى منهم عدم الرضى بقبولها رفع أو نتق جبل سيناء فوقهم وأمسكه على رؤوسهم ليوقع الرعب والفزع في أفئدتهم. وقد وردت هذه القصة في الكتاب اليهودي «عبوداه زاراه» الفصل الثاني ونصها: «قد سترتكم بالجبل كغطاء».

ولا حاجة للقول إن هذه الخرافة لا أثر لها في التوراة، ولكن منشأها وهم وسوء فهم بعض مفسِّري اليهود. فورد في سفر الخروج 32:19 أنه لما نزل موسى من الجبل ورأى بني إسرائيل يعبدون العجل الذي صنعوه، غضب وطرح من يديه اللوحين اللذين كانا منقوشاً فيهما العشر الوصايا وكسرهما في أسفل الجبل. فمن قوله «في أسفل الجبل» يُفهم أن هذين اللوحين كُسرا عند سفح الجبل وليس تحت الجبل. ولكن لما كان اليهود الذين في العصور المتأخرة مولعين بالغرائب، لووا معنى الكلمات وصرفوها عن حقيقتها وابتدعوا الخرافة المتقدمة لتفسير هذه الآية.

ومع ذلك فهذه القصة تشبه قصة هندية وردت في مجلة «كتب سانسكريت» بخصوص «كرشنا» أحد آلهتهم، فقد رووا أنه في ذات يوم لما رغب أن يقي سكان مدينة «كوكلة» مسقط رأسه من غوائل زوبعة وأمطار رفع جبلاً اسمه «كووردهنة» من قاعدته الحجرية، وهو أعظم كل الجبال، وعلَّقه سبعة أيام وسبع ليال بأطراف أصابعه فوق رؤوسهم كمظلة. ولا نعرف باليقين إذا كان اليهود قد أخذوا هذه القصة من الهنود أم لا، ولكن من الواضح أن القصة الواردة في القرآن هي نفس القصة الواردة في كتب اليهود.

ويوجد أيضاً في القرآن غرائب بخصوص ما حصل في البرية في أيام موسى، منها قوله إن العجل الذهبي المشار إليه «له خُوار» وأنه خار لما أُخرج من أتون النار، فورد في الأعراف 7:148 وفي سورة طه 20:87 و88 «فكذلك ألقى السامري فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار». وأصل هذه القصة موجود في كتاب «فرقى ربي ألعازار» (فصل 45)، وهاك ترجمة أصل أقواله العبرية:

«وهذا العجل خرج خائراً فرآه بنو إسرائيل. وقال «ربي يهوداه» إن سمائيل كان مختفياً في داخله وكان يخور ليغش إسرائيل». ولا شك أن محمداً أخذ هذا النبأ من اليهود الذين (من سوء حظه) خدعوه لأنهم اختلقوا هذه الخرافة من عالم أوهامهم. ولم يلتفت محمد إلى اسم الشخص المذكور في هذه القصة اليهودية، فسمّاه «السامري». وكثيراً ما وردت كلمة «السامري» في العهد الجديد، ومرة في العهد القديم. وكان اليهود يعتبرون السامريين أعداءهم ويعتقدون أنهم زاغوا عن سواء السبيل بسبب الخطأ والجهالة. ولكن بما أن مدينة السامرة لم تُبنَ إلا بعد وفاة موسى بنحو أربعمائة سنة، فيتعذر علينا أن نفهم كيف يمكن وجود الاسم قبل وجود مُسمّاه. لا بد أن محمداً قصد أن يكتب «السمائيل» عوضاً عن السامري. ولكن بما أنه لم يكن يعلم أن اليهود يسمون ملك الموت «سمائيل» توهم أن هذا هو اسم الرجل الذي صنع العجل الذهبي كما هو واضح من منطوق القرآن. فالقرآن إذن مخالف للتوراة في هذه القضية، لأن التوراة ذكرت أن هارون هو الذي صنع العجل خوفاً من اليهود. ثم إن ما ذكر في سورة البقرة 2:51 وفي النساء 4:153 من أن بعض الإسرائيليين رأوا الله فماتوا، ثم بعثهم وأحياهم ثانية، فهو مأخوذ من خرافات اليهود، وقد ورد فيها أن التوراة ذاتها توسَّلت لأجلهم فعادت أرواحهم إلى أجسادهم.

(6) في اقتباسات أخرى:

(أ) في القرآن كلمات عبرية وكلدية وسريانية عجز مفسرو المسلمين عن تفسيرها لجهلهم بتلك اللغات. ومن هذه الكلمات: توراة - تابوت - جنة عدن - جهنم - حَبر - سكينة - طاغوت - فرقان - ماعون - ملكوت وغيره. فمن أراد معرفة حقيقة معنى هذه الكلمات القرآنية عليه أن يراجع قواميس اللغات العبرية والكلدية والسريانية. ومن له إلمام بعلم صرف اللغة العربية واشتقاقها لا يسعه إلا الاعتراف بأن كثيراً من هذه الكلمات ليست من أصل عربي، ولم تُصَغْ من أصولها حسب قواعد اللغة العربية. مع أن هذه الأصول نفسها موجودة في العربية، كما هي موجودة في اللغات الأخرى المذكورة.

(ب) واقتبس القرآن من اليهود أموراً أخرى، مثلما ذُكر في سورة الإسراء 17:44 وسورة المؤمنون 23:86 أنه يوجد سبع سموات، وتكلم في سورة الحِجر 15:44 عن سبعة أبواب لجهنم. وهذان الأمران مأخوذان من كتابين من كتب اليهود أحدهما يسمى «حكيكاه» Hagigah (باب 9 فصل 2) وثانيهما «زوهر» (فصل 2 ص 150). وقال الهنود أيضاً إنه يوجد سبع دركات تحت الأرض وسبع درجات فوقها. وكل من هذين القسمين مستند على رأس من رؤوس ثعبان ضخم اسمه «شَيشه» له ألف رأس. فالمدوَّن في الكتب الهندية وفي الخرافات اليهودية وفي الأحاديث الإسلامية أصله واحد. فما ورد في «عرائس المجالس» (ص 5-9) عن سبع دركات الأرض موجود في كتاب «أفستا» Avesta وهو كتاب ديني لقدماء الفرس يقول إن الأرض تشتمل على سبع «كثور» أو سبعة أقاليم. وورد في أحد أبواب الأفستا (يشت باب 19 فصل 31) إن جمشيد استولى على «الأرض التي تشتمل على سبعة أقاليم».

(ج) وورد في سورة هود 11:7 عن عرش الله: «كان عرشه على الماء» وهو يطابق الروايات اليهودية المذكورة في تفسير المفسر اليهودي المشهور «راشي» (اختصار لرابي شلومو يتسحاقي) الذي قال في تفسيره على تكوين 1:2 «إن العرش المجيد استقر في الهواء، وعام على المياه».

(د) وقال المسلمون إن الله سبحانه عيَّن على جهنم ملاكاً، وهو يطابق قول اليهود في كتبهم القديمة عن رئيس جهنم. غير أن المسلمين انتحلوا اسم هذا الملاك من عبدة أصنام فلسطين القدماء، الذين كانوا يسمّون أحد آلهتهم الكاذبة الذي كان يترأس على النار «مولك» وهو اسم فاعل باللغة العبرية، كما أن مالك هو اسم فاعل باللغة العربية.

(هـ) وورد في القرآن: «وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال» (سورة الأعراف 7:46) وقالوا إن الأعراف موجود بين السماء وجهنم، واقتبسوا هذا من اليهود، فقد ورد في كتاب «مدراش» في تفسير سفر الجامعة 7:14 «أنه لما استفهم بعضهم «ما هي المسافة بين السماء وجهنم؟» أجاب ربي يوحانان: «إن بينهما حائط». وقال ربي أخاه «إنها مسافة شبر». وقال الربانيون إنهما متقاربان بحيث تنفذ أشعة النور من أحدهما إلى الآخر. ومنشأ الوهم وجود الأعراف في كتاب «أفِستا» للزردشتيين (أي قدماء الفرس) واسم الأعراف بلغتهم «مسوانوكاتس» (فركند 19) واسمه بلغة بهلوي «مسوت كاس» ويقول مذهب الزردشتيين إن المسافة بين السماء وجهنم قدر المسافة بين النور والظلمة.

(و) وورد في سورة الحجر 15:18 و34 عن الشيطان الرجيم أنه «استرق السمع» ومثل هذا في سورة الصافات 37:8 وسورة الملك 67:5. وأصل ذلك مأخوذ من خرافة من الخرافات اليهودية وردت في كتاب «حكيكاه» (باب 6 فصل 1) عن الشياطين أنهم ينصتون من وراء حجاب ليطَّلعوا على الحوادث المستقبلة.

(ز) وورد في سورة ق 50:30 «يوم نقول لجهنم: هل امتلأتِ؟ وتقول: هل من مزيد؟». وورد في الكتاب اليهودي «أوتوت دربي عقيباه» ما يطابق ذلك، قوله: «رئيس جهنم يقول يوماً فيوماً: أعطني طعاماً حتى أستكفي».

(ح) وورد في سورة هود 11:40 وفي سورة المؤمنون 23:27 أنه في أيام طوفان نوح «فار التنور» وأصل هذا المعنى مأخوذ من كتابين من كتب اليهود أحدهما كتاب «روش هشاناه» فصل 16:2 وثانيهما رسالة تسمى «سنهدرين» فصل 108 ونص عبارتيهما أن جيل الطوفان دينوا بالماء المغلي.

(ط) وقد قلنا إن صوم رمضان ليس مطابقاً لعادة اليهود بل لعادة الصابئين. غير أن محمداً انتحل من اليهود شيئاً له ارتباط بهذا الصيام، فقد ورد في سورة البقرة 2:187 أمر بخصوص الأكل والشرب في الليل في شهر رمضان، ونصها «كلوا واشربوا». وورد في «مشناه برأخوت» (باب 1 فصل 2) أن أول النهار هو الوقت «الذي يمكن للإنسان أن يميِّز فيه الخيط الأزرق من الخيط الأبيض». فهل حصل هذا الاتفاق الغريب بين القرآن والكتاب اليهودي اتفاقاً؟ وهل يمكن أن يكون هذا الاتفاق من قبيل توارد الخواطر؟

(ي) وجرت عادة المسلمين في جميع البلاد أن يؤدّوا كل يوم الصلوات الخمس المفروضة عليهم في أوقاتها المقررة حيثما كانوا، سواء في بيوتهم أو في الشوارع أو في أي محل آخر. وهم يؤدون الصلاة في المحال التي يكثر فيها مرور الناس بالمصلّين، واختصّوا بهذه العادة غير المستحسَنة، لأن جميع الملل يستهجنونها وينكرونها. ولا شك أن اليهود الذين كانوا في بلاد العرب في عصر محمد اعتادوا هذا الأمر، لأن كثيرين منهم كانوا من ذرية الفرقة التي اسمها «فريسيون» والتي ذُكرت كثيراً في البشائر الأربع، فتناسلوا منهم تناسلاً طبيعياً. ومن لم يتناسل منهم طبيعياً كانوا على مذهبهم، وقد وصفهم الإنجيل بأنهم كانوا «يحبون أن يصلوا قائمين في المجامع وفي زوايا الشوارع، لكي يظهروا للناس» (متى 6:5). ونعرف بالاستنتاج أن المسلمين أخذوا هذه العادة منهم، فقد قال محمد إن اليهود هم أهل الكتاب وذرية إبراهيم الخليل، فاقتدوا بهم متوهمين أن تلك العادة أيضاً مأخوذة عن إبراهيم.

(ك) ومن الغرائب أن القرآن قرر أنه نزل للتصديق على الكتب اليهودية المقدسة، واقتبس صريحاً آية واحدة منها وردت في سورة الأنبياء 21:105 «ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذِّكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون». والوعد المذكور في الزبور الذي استشهد به القرآن جاء في مزمور 37:11 «أما الودعاء فيرثون الأرض».

(ل) وهناك أمران آخران اقتبسهما المسلمون من اليهود. فقد قال المسلمون إن القرآن كُتب في اللوح المحفوظ قبل إنشاء العالم «بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ» (سورة البروج 85:21 و22). وقبل الخوض في الكلام على اللوح المحفوظ ينبغي أن نسأل علماء الإسلام: هل كان الزَّبور قبل القرآن أم لا؟ وهل هو أقدم منه عهداً وأسبق زمناً أم لا؟ لأنه ذكر في الآية التي أوردناها من سورة الأنبياء أن ما اشتملت عليه هذه الآية بخصوص ميراث عبيد الله الصالحين كُتب قبلاً بأمر الله في الزبور. ومما يؤيد هذه القاعدة المصطلح عليها أننا إذا عثرنا مثلاً في كلام «مثنوي» لمولانا الرومي على شطرة من بيت شعر ضمَّنها بعض عبارات مقتبسة من كتاب «شاه نامه» مثلاً أو عبارات القرآن، جزمنا جزماً أكيداً بأن الشاه نامه أو القرآن متقدم على تأليف «مثنوي». وعلى هذا القياس نقول إننا إن رأينا في القرآن آية من آيات مزامير داود النبي يتضح لنا جلياً أن القرآن لم يكن موجوداً قبل أيام النبي الذي أُوحي إليه الزبور. ولكن إذا أخذنا في البحث والتحري عن معلومات المسلمين التي استفادوها بخصوص اللوح المحفوظ وجدنا هذه البينات في مثل هذه الكتب وهي «قصص الأنبياء» (ص 3 و4) ونصها «ومن تحت العرش خلق (الله) لؤلؤة، ومن تلك اللؤلؤة خلق اللوح المحفوظ، وارتفاعه سَفَر سبعمائة سنة وعرض سَفَر ثلثماية سنة، وكان مرصَّعاً بالياقوت الأحمر. ثم بقوة الله تعالى ثم صدر الأمر إلى القلم: اكتب علمي في خلقي وما هو كائن إلى يوم القيامة - كتب أولاً في اللوح المحفوظ بسم الله الرحمن الرحيم، أنا الله لا إله إلا أنا. من يستسلم لقضائي ويصبر على بلائي ويشكر على نعمائي كتبتُه وبعثتُه مع الصديقين. ومن لم يرضَ بقضائي ولم يصبر على بلائي ولم يشكر على نعمائي فليطلب رباً سوائي، ويخرج من تحت سمائي. ثم كتب القلم علم الله في خلق الله تعالى كل شيء أراده إلى يوم البعث، حتى مقدار تحريك الشجرة أو نزولها أو صعودها وكتب كل شيء مثل هذا بقوله تعالى».

وأصل هذه القصة موجود في كتب اليهود، غير أن المسلمين توسَّعوا وبالغوا فيما كتبه اليهود في هذا الصدد. فقد ورد في توراة موسى أن الله لما أراد أن يسلِّم الوصايا العشر لبني إسرائيل (خروج أصحاح 20) سلَّمها لموسى كليمه، فكتب: «في ذلك الوقت قال لي الرب: انحت لك لوحين من حجر مثل الأوَّلين واصعد إليّ إلى الجبل، واصنع لك تابوتاً من خشب، فأكتب على اللوحين الكلمات التي كانت على اللوحين الأولين اللذين كسرتهما وتضعهما في التابوت. فصنعت تابوتاً من خشب السنط ونحت لوحين من حجر مثل الأولين وصعدت إلى الجبل واللوحات في يدي، فكتب على اللوحين مثل الكتابة الأولى الكلمات العشر التي كلمكم بها الرب في وسط النار في يوم الاجتماع، وأعطاني الرب إياها ثم انصرفت ونزلت من الجبل، ووضعت اللوحين في التابوت الذي صنعت فكانا هناك كما أمرني الرب» (تثنية 10:1-5).

وورد في 1ملوك 8:9 وفي رسالة العبرانيين 9:3 و4 أن هذين اللوحين حُفظا في تابوت العهد الذي صنعه موسى حسب أمر الله. وهذا هو معنى اللوح المحفوظ أو بالحري معنى اللوحين المحفوظين. وقد ورد في سورة البروج 85:21 و22 «بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ» ولم يقل في «اللوح المحفوظ» فوردت كلمة «لوح» نكرة بدون أداة التعريف. فمن الواضح إذاً أن قوله إن القرآن كُتب على لوح محفوظ ليس أنه كتب على اللوح الواحد المحفوظ، بل لابد من وجود لوح آخر أقل ما يكون. فإذا قيل: لماذا قال محمد إن القرآن كُتب على لوح محفوظ؟ قلنا: يجب أن نبحث في الكتب اليهودية لنرى ما قاله اليهود في عصر محمد وقبله عما كتب في اللوحين اللذين حُفظا في تابوت العهد. ومع أن التوراة صرحت بما لا يقبل الشك أن ما كُتب على اللوحين كان الوصايا العشر (تثنية 10:4) أو العشر كلمات كما ورد باللغة العربية، إلا أن اليهود توهَّموا بعد مدة من الزمان أن جميع كتب العهد القديم وأيضاً كل التلمود كُتب عليهما أو على الأقل نزلت معهما. ولما سمع محمد من اليهود هذا القول عن شريعتهم حذا حذوهم، ونسب إلى شريعته ما نسبه اليهود إلى شريعتهم، فادَّعى أن القرآن كان مكتوباً في لوح من اللوحين المحفوظين، أو كما قال في سورة البروج «في لوح محفوظ». ولما كان المسلمون لا يعرفون معنى قوله «لوح محفوظ» ابتدعوا هذه القصة التي تقدم ذكرها. وقال اليهود عما اشتمل عليه هذان اللوحان: قال الربي شمعون بن لاقيش: أما الذي كتب فهو «فأعطيك لوحي الحجارة والشريعة والوصية التي كتبتها لتعليمهم» (خروج 24:12) واللوحان هما الوصايا العشر والتوراة هي التي تُتلى، والوصية هي «المشناة»، والتي كتبها هي «الأنبياء والكتب» ولتعلمهم «الجمارا». ويُستفاد من هذا أنه أوحى جميعها لموسى من جبل سيناء.

وكل يهودي ذكي يرى وجوب رفض التفسير الباطل لهذه الآية، لأنه يعرف إن كتاب «المشناة» كُتب نحو سنة 320م وكُتب «الجمارا الأورشليمي» نحو سنة 430م، وكُتب «الجمارا البابلي» نحو سنة 530م. ولكن لما كان المسلمون يجهلون هذا قبلوا ما قاله جهلة اليهود وطبَّقوه على قرآنهم. فنرى من هذا أن هذه الرواية مأخوذة من هذا المصدر كغيرها من الروايات والقصص المدوَّنة في الأحاديث.

ولم ينفرد المسلمون بالاعتقاد أن لوحهم المحفوظ كان قديماً، فقد توهَّم اليهود أن اللوحين المشتملين على الوصايا العشر كانا قديمين جداً. فقد ورد في فرقي أبوت (باب 5 وفصل 6) أن هذين اللوحين مع تسعة أشياء أخرى خُلقت وقت خلق الدنيا وقت غروب الشمس قبل يوم السبت.

(م) وأصل ما ورد في الأحاديث الإسلامية عن «جبل قاف» الذي لا وجود له إلا في الوهم والخيال هو الكتب اليهودية، فأخذه المسلمون منها ونقلوه عنها. والبرهان على ذلك إننا إذا قارنا بين ما ورد في «عرائس المجالس» و«قصص الأنبياء» وبين ما يقوله اليهود نجد الأمرين واحداً. فقد ورد في «عرائس المجالس» (صفحتا 7 و8): «خلق الله تعالى جبلاً عظيماً من زبرجدة خضراء خُضرة السماء منه، يُقال له جبل قاف فأحاط بها كلها (أي الأرض) وهو الذي أقسم الله به فقال «ق والقرآن المجيد» (سورة ق 50:1). وورد في «قصص الأنبياء» (ص 5) أن عبد الله بن سلام سأل محمداً: «ما هي أعلى قمة في الأرض؟ قال: هي جبل قاف. فقال: جبل قاف ممَّ هو؟ فقال: من زمرد أخضر وخضرة السماء هي منه. قال: صدقت يا رسول الله. قال: ما هو ارتفاع جبل قاف؟ فقال: إنه سَفَر خمسمائة سنة. وقال: كم هي المدة التي يقطع الإنسان فيها محيطه؟ فقال: إنها سَفَر ألفي سنة».

وأصل حكاية جبل قاف ما جاء في كتب أحد اليهود المسمى حكيكاه (باب 11 وفصل 1) في تفسير الكلمة العبرية «توهو» النادرة الاستعمال، ومعناها الفضاء والفراغ وقد وردت في تكوين 1:2. ويقول كتاب حكيكاه «توهو هو الخط الأخضر الذي يحيط بجميع العالم قاطبة، ومنه تنبعث الظلمة» فالكلمة العبرية التي ترجمناها «الخط» هي «قاف»Qav . فلما سمع محمد والصحابة قصة «قاف» لم يعرفوا أن معناها خط، وتوهَّموا أنها سلسلة جبال عظيمة اسمها قاف، تنبعث منها الظلمة . ولا حاجة للقول إن الجغرافيين الذين يبحثون في الكرة الأرضية وأقطارها جابوا أطراف الدنيا للاكتشاف، ولم يكتشفوا سلسلة جبال يصدق عليها الوصف الوارد في الأحاديث عن جبل قاف.

يتضح مما قيل في هذا الفصل صِدق ما ذهب إليه المعترضون من أن كتب اليهود (ولا سيما كتب التلمود المشحون بالخرافات) هي أهم مصادر الديانة الإسلامية . وإذ تقرر ذلك فيجدر بنا أن نبحث في المصادر الأخرى لهذه الديانة، وننظر إذا كانت الديانة الإسلامية قد انتحلت باقي عقائدها من الديانة المسيحية، خصوصاً من الكتب الملفقة والخرافات الباطلة التي كانت متواترة في عصر محمد بين بعض الفرق المسيحية الضالة وأصحاب البدع الباطلة.

 

 

 

 

الفصل الرابع

تأثيرات الفرق النصرانية الضالة

 

في عصر محمد عاش كثيرون من النصارى في بلاد العرب، منغمسين في الجهالة والبدع والضلالة. ولما طُرد كثير منهم من حدود مملكة الروم بسبب تعاليمهم الفاسدة لجأوا إلى بلاد العرب. ولما لم تكن لهم معرفة كثيرة بالإنجيل تداولوا بعض الكتب الملفَّقة الملآنة من الخرافات التي لا أصل لها يتلونها ويروون القصص المدونة فيها ويتناقلونها.

وقال الناقدون لدين الإسلام إن محمداً لم يكن له إلمام تام بالإنجيل الشريف، وإنه اختلط مع أصحاب هذه البدع، فتوهَّم أن ما سمعه منهم كان مدوناً في الإنجيل. وبما أنه وجَّه نظره لتأسيس دين يدين به جميع سكان شبه جزيرة العرب، ويتَّحدون بواسطته ويصيرون جماعة واحدة، قبِل كثيراً من خرافات جهلة النصارى ومذاهبهم الفاسدة وأدخلها في قرآنه. وبما أنه لا يصح تصديق رأي هؤلاء المعترضين بدون النظر والفحص، رأينا أن نتحرى بالتدقيق هذه القضية في هذا الفصل، لنعرف إن كانت مثل هذه الخرافات هي أحد مصادر الإسلام أم لا.

(1) قصة أصحاب الكهف: ويسميها المسيحيون «السبعة النيام». وقد وردت في سورة الكهف 18:9-26، وهي إحدى خرافات اليونان الواردة في كتاب لاتيني اسمه «مجد الشهداء» تأليف غريغوريوس (كتاب 1 فصل 95). وتقول القصة إنه لما كان «دِكيوس» إمبراطور روما يضطهد المسيحيين بغاية القسوة ليمحو حتى اسمهم من أذهان الناس، هرب سبعة شبان من سكان مدينة أفسس (التي لا تزال أطلالها باقية إلى الآن في تركيا) واختبأوا في كهف قريب من تلك المدينة، فناموا نحو 200 سنة تقريباً، لأنهم دخلوا الكهف في عهد «دَكيوس» (بين سنة 249 و251 م) ولم يخرجوا منه ثانية إلا في سنة 447 في ولاية الملك ثيودوسيوس الثاني. فلما استيقظوا ورأوا أن المسيحية قد انتشرت انتشاراً عظيماً في تلك المدة ذهلوا، لأنهم لما ناموا كان الناس يعتبرون الصليب علامة احتقار وعار، ولما استيقظوا رأوه يتلألأ على تاج الإمبراطور وعلى أعلام مملكته، وأن جميع رعايا المملكة الرومانية قد دانوا بالمسيحية، وأن هذه الديانة كادت تزيل غيرها من الأديان.

ولا شك أن قصة السبعة النيام خرافة. ولكن بعض ذوي العقول الوقادة قالوا إنها لا تخلو من حكمةٍ وفائدة. ولم يقصد واضع هذه الرواية إضلال الناس وغشهم، بل أوردها على سبيل المجاز، ليُظهِر لقارئها انتشار الديانة المسيحية بسرعة عجيبة بنعمة الروح القدس وبسفك دماء الشهداء. ولا يُحتمل أن مسيحياً يتوهم حدوث هذه القصة حرفياً، بل إن جميع المسيحيين يعتقدون أنها قصة رمزية.. غير أن محمداً اقتبسها وأوردها في قرآنه وعلّمها لصحابته كأنها حكاية حقيقية. وبما أنه لا أصل لهذه القصة فمن الواضح أن الله العليم الحكيم لم يكتبها في لوح محفوظ، بل أخذها محمد من روايات بعض جهلة النصارى.

(2) قصة مريم :ورد في سورة مريم 19:27 و28 أن مريم أتت إلى قومها بعد ولادة المسيح فقالوا لها: «يا مريم، لقد جئت شيئاً فرياً. يا أخت هرون، ما كان أبوك امرء سوء وما كانت أمك بغياً». فيتضح من هذا أن محمداً قال إن العذراء مريم هي أخت هرون وموسى. وما يزيد هذا الأمر وضوحاً ما ورد في سورة التحريم 66:12 «ومريم ابنت عمران» (وهكذا في سورة آل عمران 3:35). وجاء في سورة الفرقان 25:35 «ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هرون وزيراً» فثبت من هذا أن عمران وموسى وهرون ومريم هم ذات الأشخاص الذين ورد ذكرهم بهذه الأسماء في أسفار موسى الخمسة، ولو أن التوراة قالت إن الاسم هو «عمرام» عوضاً عن «عمران» كما في سفر العدد 26:59 «واسم امرأة عمرام يوكابد بنت لاوي، التي وُلدت للاوي في مصر. فوَلدت لعمرام هرون وموسى ومريم أختهما». وورد في سفر الخروج 15:20 أن «مريم النبية» كانت «أخت هرون» كما رأينا في سورة مريم حيث قيل: «يا مريم.. يا أخت هرون». فلا شك أن محمداً توهَّم أن مريم أخت هرون التي كانت أيضاً ابنة عمرام (أي عمران) هي نفس مريم العذراء التي صارت أم المسيح بعد ذلك بنحو 1570 سنة! وهذا القول يشبه الرواية الواردة في «الشاهنامة» بخصوص فَريدون وأختي جمشيد، فقد جاء فيها أنه بعد أن هزم فريدونُ الضحاكَ واستولى على بيته وجد فيه أختي جمشيد اللتين أقامتا في بيت الضحاك من أوائل حكم الضحاك، نحو ألف سنة تقريباً من قبل ذلك. فلما رآهما فريدون راعه جمالهما إلى آخر تلك الحكاية. وقد حاول بعض المفسرين المسلمين أن يفنِّدوا هذا البرهان الذي أُقيم ضد القرآن، ولكنهم عجزوا. وربما كان سبب هذا الغلط أنه ورد في إحدى خرافات اليهود عن مريم أخت هرون: «إن ملاك الموت لم يتسلط عليها، بل ماتت بقُبلة إلهية. ولم يتسلط عليها الدود ولا الحشرات». وعلى كل حال فهذا خطأ جسيم، لأنه لم يقل أحد من اليهود إن مريم هذه بقيت على قيد الحياة إلى أيام المسيح.

وقد وردت في القرآن معلومات كثيرة عن العذراء مريم تخالف ما ورد في الأناجيل الأربعة الصحيحة، لأن روايات القرآن مأخوذة من خرافات أصحاب البدع والضلالة، فقد ورد فيه: «إذ قالت امرأة عمران: ربي إني نذرت لك ما في بطني محرراً، فتقبَّل مني إنك أنت السميع العليم. فلما وضعتها قالت: ربي إني وضعتها أنثى، والله أعلم بما وضعَت، وليس الذكر كالأنثى وإني سميتُها مريم، وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم. فتقبَّلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً. وكفَّلها زكريا. كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً. قال: يا مريم، أنَّى لك هذا؟ قالت: هو من عند الله، يرزق من يشاء بغير حساب» (سورة آل عمران 3:35-37).

وقال البيضاوي وغيره من المفسرين إن امرأة عمران كانت عاقراً عجوزاً، فلما رأت مرة طيراً يطعم فرخهُ حنَّت إلى الذرية وتوسلت إلى الله أن يرزقها ولداً، وقالت: اللهم إن رزقتني ولداً ذكراً أو أنثى فأقدِّمه كهِبةٍ في حضرتك لبيت المقدس. فأجاب المولى طلبها، فحملت وولدت بنتاً هي مريم. وقال جلال الدين: بعد مضي سنين حملت أم مريم، وكان اسمها حنة، فأتت بابنتها إلى المسجد وسلمتها إلى الأحبار سَدَنة بيت المقدس، فقالت: دونكم هذه النذيرة. فتنافسوا فيها لأنها بنت إمامهم. فأخذها زكريا وبنى لها غرفة في المسجد بسُلَّم لا يصعد عليه غيره، وكان يأتيها بأكلها وشربها فيجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، فإن ملاكاً كان يأتيها بأكلها، ثم ورد في هذه السورة: «وإذ قالت الملائكة: يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين. يا مريم اقتني لربك واسجدي واركعي مع الراكعين. ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك، وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم، وما كنت لديهم إذ يختصمون. إذ قالت الملائكة: يا مريم، إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم، وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقرَّبين. ويكلم الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين. قالت: ربي أنَّى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر؟ قال: كذلك الله يخلق ما يشاء. إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون» (سورة آل عمران 3:42-47). وقال البيضاوي والجلالان عن الاقتراع وإلقاء الأقلام إنه لما تنافست الأحبار قال زكريا: أنا أحقُّ بها، فقالوا: لا حتى نقترع. فانطلق زكريا وستة وعشرون إلى نهر الأردن وألقوا أقلامهم في الماء على أن من ثبت قلمه في الماء وصعد فهو أولى بها، فثبت قلم زكريا. فأخذ مريم وتكفل بها. فورد في سورة مريم 19:16-31
«واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً، فاتَّخذت من دونهم حجاباً، فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً. قالت: إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً. قال: إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً. قالت: أنَّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً؟. قال: كذلك قال ربك هو علي هيِّن ولنجعله آية للناس ورحمة منا، وكان أمراً مقضياً. فحملته فانتبذت به مكاناً قصياً. فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة. قالت: يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً. فناداها من تحتها ألاّ تحزني، قد جعل ربك تحت سرياً، وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً، فكلي واشربي وقري عيناً فإما ترينَّ من البشر أحداً فقولي: إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً. فأتت به قومها تحمله. قالوا: يا مريم، لقد جئتِ شيئاً فرياً. يا أخت هرون، ما كان أبوك امرأ سوء، وما كانت أمك بغياً. فأشارت إليه، قالوا: كيف نكلم من كان في المهد صبياً؟ قال: إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً» (سورة مريم 19:16-30) فهذه هي قصة مريم حسب ورودها في القرآن وفي كتب أقدم مفسري المسلمين.

وقال المحققون المدققون إن هذه الأمور لم تؤخذ من الأناجيل الصحيحة، بل أُخذت من كتب الخرافات التي كانت متداولة في الأزمنة القديمة بين أصحاب البدع الباطلة. وبما أننا لا نقبل قولاً بدون براهين كافية وجب علينا أن نمعن النظر في الأدلة التي يقيمونها، وهي:

ورد في كتاب «بروت يوأنجيلون» ليعقوب الصغير (أصحاحات 3-5) «فرفعت حنة عينيها إلى السماء فرأت عش عصافير في شجرة غار، فتنهدت قائلة: «يا أحاح يا أحاح، من ولدني أح أح.. ومن أُشبِه؟ فلستُ مثل طيور السماء لأن طيور السماء أيضاً هي ذات ثمار أمامك يا رب».. وإذا بملاك الرب وقف بجانبها قائلاً لها: يا حنة، إن الرب استجاب طلباتك فستحبلين وتلدين ويُذاع صيت نسلك في جميع أنحاء العالم. فقالت حنة: حيٌّ هو الرب إلهي، إذا ولدت ذكراً كان أو أنثى نذرته للرب إلهي وسيخدمه طول أيام حياته.. وتمت أشهرها وولدت حنة في الشهر التاسع.. وأرضعت الطفلة وسمَّتها مريم».

وورد في كتاب عربي تافه يسمى «قصة نياحة أبينا القديس الشيخ النجار» (فصل 3) بخصوص مريم: «قدمها أبواها إلى الهيكل وهي ابنة ثلاث سنين، وأقامت في هيكل الرب تسع سنين. ولما رأى الكهنة العذراء القديسة المتَّقية الرب قد نشأت، خاطبوا بعضهم بعضاً قائلين: سلوا عن رجل يخاف الله لتودعوا عنده مريم إلى زمان العرس لئلا تبقى في الهيكل».

ولكن قبل ذلك لما أحضر والدا مريم ابنتهما إلى الهيكل حدثت أشياء أخرى وردت في سياق القصة في «البروت يوأنجيليون» (أصحاحات 7-9 و11): «إن الكاهن قبلها وقبلها وباركها قائلاً إن الرب الإله عظَّم اسمك بين جميع أجيال الأرض، وعليك في آخر الأيام يعلن الرب الإله فداء بني إسرائيل.. وربيت مريم كحمامة في هيكل الرب، وكانت تتناول الأكل من يد ملاك حتى 12 سنة من العمر. ثم التأم مجلس الكهنة فقالوا: إذا بلغت مريم اثنتي عشرة سنة من العمر في هيكل الرب، فما الذي يجب فعله بها؟.. فوقف ملاك الرب بجانب زكريا وقال له: يا زكريا، اخرج واجمع أرامل القوم، وليأت كل واحد بقلم، ومن يريه الرب الإله علامة تكون زوجةً له. فخرج المنادون في جميع نواحي اليهودية وبوَّقوا ببوق الله، فأتى الجميع مسرعين. فألقى يوسف قدّومه أيضاً وولج في المجلس. ولما اجتمعوا توجَّهوا إلى الكاهن، فأخذ الكاهن أقلام الجميع ودخل الهيكل وصلى. ولما تمت صلاته خرج وردَّ لكل واحد قلمه، فلم تظهر علامة فيه، غير أن يوسف أخذ القلم الأخير، فخرجت من القلم حمامة وطارت على رأس يوسف.. فقال له الكاهن صار لك حق بواسطة القرعة أن تتخذ عذراء الرب، فخُذها وديعة عندك.. ولما كان يوسف منزعجاً أخذها وديعة عنده.. فأخذت مريم جرَّة وخرجت لتملأها ماء، وإذا بصوت قائل: السلام لك أيتها المنعَم عليها. الرب معك. مباركة أنت في النساء. فأخذت تلتفت يميناً ويساراً لترى من أين أتى هذا الصوت. ولما انزعجت توجهت إلى بيتها ولما وضعت الجرة.. جلست على الكرسي.. وإذا بملاك الرب قد وقف بجانبها وقال لها: لا تخافي يا مريم لأنك وجدتِ نعمة أمام الله، وستحبلين بكلمته. ولما سمعت هذا قالت مريم في نفسها: هل أحبل كما تلد كل امرأة؟ فقال لها الملاك: ليس كذلك يا مريم، لأن قوة العلي تظللك، فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يُدعى ابن الله وتسمينه يسوع».

ويظهر من آخر هذه القصة أن كلمات الملاك هذه مأخوذة من إنجيل لوقا 1:28-35، لكن بقية الحكاية لا أصل ولا صحة لها. أما قصة مريم في هيكل الله فقد وردت في كتب أخرى ملفَّقة، ولا سيما في بعض المؤلفات القبطية، فقد ورد في الكتاب القبطي «سيرة العذراء» أنه لما وضعت حنة ابنتها مريم في الهيكل «كانت ترزق في الهيكل كحمامة، وكان ملائكة الله يأتون إليها برزقها من السماء. ولما كانت تسجد في الهيكل كانت ملائكة الله يخدمونها، وكثيراً ما حدث أنهم كانوا يأتون لها بأثمار من شجرة الحياة فكانت تأكلها بانشراح».

وورد أيضاً في كتاب قبطي عنوانه «حكاية رحلة يوسف»: «كانت مريم تقيم في الهيكل وتعبد الله هنا بطهارة النية، وكانت تنمو إلى أن بلغت سن الاثنتي عشرة سنة، فأقامت في بيت والديها مدة ثلاث سنين وفي هيكل الرب تسع سنين أيضاً. ثم لما رأت الكهنة أن تلك العذراء اشتهرت بالعفاف ولم تزل خائفة الرب تشاوروا بعضهم مع بعض قائلين: لنفتش على رجل صالح لتكون خطيبة له إلى أن يحل وقت عرسها.. ودعوا فوراً سبط يهوذا واختاروا منه اثني عشر رجلاً بحسب عدد أسباط بني إسرائيل، فوقعت القرعة على يوسف ذلك الرجل الشيخ الصالح».

وبعد ذلك لما حبلت مريم أحضروها مع يوسف أمام الكاهن واشتكوها. وورد في «البروت يوأنجيليون» (فصل 15): «فقال الكاهن: يا مريم، لماذا فعلتِ ذلك وثلَمْتِ عَرْضك؟ أنت نسيت الرب إلهك مع أنك تربيتِ في قدس الأقداس وكنت تتناولين الطعام من يد الملاك وكنت تسمعين الترنيمات (الإلهية)؟.. لماذا فعلتِ هذا؟ فبكت بشدة وقالت: حي هو الرب إنني طاهرة أمامه ولا أعرف رجلاً».

ثم ذكر أن يوسف ومريم خرجا من الناصرة إلى بيت لحم ولم يجدا محلاً في الخان، فأقاما في مغارة حيث ولد فيها المسيح (فصل 18 من ذلك الكتاب) إذ يقول: «إن يوسف وجد مغارة وأدخلها فيها.. وأنا يوسف.. شخصت بعيني إلى السماء فرأيت قبة السماء واقفة وطيور السماء ترتعد. ثم نظرت إلى الأرض فرأيت قصعة موضوعة والعملة جالسين وأيديهم في القصعة. فالذين كانوا يتناولون الطعام لم يتناولوه. والذين كانوا يضعونه في أفواههم لم يضعوه، بل كانت وجوههم جميعاً مرتفعة إلى فوق. ورأيت غنماً مسوقة وقد وقفت، فرفع الراعي يده ليضربها فوقفت يده مرفوعة. ثم حوَّلتُ نظري إلى مجرى ماء فرأيت بعض الجداء وكانت أفواهها مرتفعة فوق الماء ولم تشرب، فنظرت أن كل شيء كان في غاية الدهشة». وهذه الخرافة هي أصل القصة الواردة في «روضة الأحباب عن الغرائب والعجائب» التي يُقال إنها حصلت عند مولد محمد.

وربما ردَّ بعض علماء المسلمين على هذه الأدلة بقولهم إن هذا برهان على صحة النبأ الوارد في القرآن بخصوص مريم، لأننا نعلم الآن أن كثيراً من كتب المسيحيين القديمة المشابهة لهذه الكتب تؤيد ما أورده القرآن في هذا الصدد.

قلنا: لا يخفى على العاقل أنه يلزم قبل الاعتماد على شهادة شاهد أن نبحث عن صفاته وصحة أقواله. فإذا فحصنا كتب البدع بموجب هذا القانون انهارت دعائم بنائها وشهاداتها، لأنها أولاً لا يُركن إليها، وثانياً لأنها ليست قديمة جداً فإن النصوص الواردة في الأناجيل القانونية الصحيحة أقدم منها عهداً جداً. وثالثاً لم يعتمد ولن يعتمد عليها أحد من العلماء، لأنها مجرد خرافات ألَّفها بعضُهم عن وهمٍ وظن. وبصرف النظر عن كل هذا فهي تدل على جهل، لأنه لم يكن يجوز تربية أية أنثى كانت في الهيكل بين الكهنة، ولم يكن مسموحاً لأحد أن يقيم في قدس الأقداس، بل لم يكن مسموحاً لأحد أن يدخله إلا رئيس كهنة اليهود فقط مرة واحدة في السنة، بمناسبة يوم الكفارة العظيم، عندما كان يقدِّم الذبيحة ويأتي بالدم ليقدمه أمام الله في قدس الأقداس (لاويين 16:2 وعبرانيين 9:7).

ولم يرد في الأناجيل ذكر لاسم أم مريم. ولكن أصحاب البدع زعموا أن اسمها «حنة» لسببين: أولهما أنه ورد في إنجيل لوقا 2:36 أن نبية عجوزاً تُدعى حنة، وثانياً أن «حنة» هو اسم أم صموئيل النبي. أما قصة نذر مريم لله قبل الحبل بها في بطن أمها، وأنها تربَّت في الهيكل فمُخترَعة وملفَّقة، تقليداً لقصة صموئيل النبي الحقيقية الواردة في 1صموئيل 1:11 و24 و28 و2:11 و18-19. وما دروا أن هذا كان جائزاً في الحالة التي يكون فيها النذير صبياً، ولكنه لا يجوز في الحالة التي يكون فيها النذير صبية، كما يسلم بذلك كل من يعرف العادات الشرقية. فبناء على ذلك تكون شهادة هذه الخرافات لتأييد القرآن ساقطة. على أن المشابهة بينها وبين ما ورد في القرآن تدل على أن محمداً اقتبسها من مثل هذه الخرافات.

ثم أن ما ورد في سورة مريم 19:25 عن الرطب الجني الذي تساقط من النخلة على مريم مأخوذ من كتاب ملفق يدعى «حكاية مولد مريم وطفولية المخلّص» ويقول: «ولكن في اليوم الثالث بعد ارتحاله حدث أن مريم تعبت في البرية من شدة حرارة الشمس. فلما رأت شجرة قالت ليوسف: لنسترِح هنيهة تحت ظل هذه الشجرة. فبادر يوسف وأتى بها إلى تلك النخلة وأنزلها من على دابتها. ولما جلست شخصت بعينيها إلى أعلى النخلة فرأتها ملآنة بالثمر، فقالت ليوسف: يا ليتني آخذ قليلاً من ثمر هذا النخل. فقال لها يوسف: يا للعجب! كيف تقولين هذا وأنت ترين أن أفرع هذه النخلة عالية جداً؟ لكني في غاية القلق بخصوص الماء، لأن الماء الذي في قربتنا قد نفد ولا يوجد مكان نملأها منه لنروي ظمأنا. ثم قال الطفل يسوع الذي كان متكئاً على صدر أمه مريم العذراء ووجهه باش: يا أيتها الشجرة، أَهبِطي أفرعك لتنتعش أمي بثمرك. وحالما سمعت النخلة هذا الكلام طأطأت فوراً برأسها عند موطئ قدمي مريم، فالتقط الجميع من الثمر الذي كان عليها وانتعشوا، وبعد ذلك لما التقطوا جميع ثمرها استمرت النخلة مطأطئة رأسها، لأنها كانت تنتظر الارتفاع بأمر مَن قد طأطأت رأسها بأمره. فقال لها يسوع: ارفعي رأسك يا أيتها النخلة وانشرحي صدراً وكوني من أشجاري التي في جنة أبي. ولكن افتحي بجذورك الينبوع المستتر في الأرض، ولتفِض المياه من هذا الينبوع.. ففي الحال انتصبت النخلة ونبعت من جذورها مجاري مياه زلال صافية باردة آية في غاية الحلاوة. ولما رأوا مجاري المياه هذه فرحوا فرحاً عظيماً جداً، فرووا ظمأهم مع جميع بهائمهم وخدمتهم وحمدوا الله».

فلا فرق بين هذه الخرافة وبين القصة القرآنية إلا في أن رواية القرآن ذكرت أن هذه الحادثة العجيبة حصلت عند ولادة المسيح، بينما القصة القديمة تقول إنها حدثت لما كان يوسف في مصر بعد ذلك بمدة قليلة.

وإذا قيل: من أين اتخذ أصحاب البدع والخرافات هذه القصة؟ قلنا إنها واردة كما جاءت في القرآن وفي كتب أصحاب البدع في كتب «أصحاب بوذا» الذي وُلد في الهند نحو سنة 557 ق م، فقد ورد في أحد هذه الكتب المسمى «نِدانه كتها جاتكم» (فصل 1 ص 50-53) ذكر ولادة بوذا، وقيل إنه لما حبلت أمه توجهت من قصر زوجها إلى قصر الملك أبيها لتلد هناك. ولما كانت سائرة في الطريق عرجت مع خادماتها على غابة جميلة، ثم قيل: «إنها قربت من أسفل شجرة «سال» طيبة الفال، وتمنَّت لو تمسك فرعاً من شجرة السال هذه، فانثنى فرعها كأنه قصوي عصا صار تليينها ببخار وقرُب من قبضة يد السائرة، فمدَّت يدها وأمسكت الفرع فأجاءها المخاض، ووضعت لما كانت واقفة ممسكة بفرع شجرة السال».

ووردت هذه القصة بصورة أخرى في كتاب من كتب أصحاب بوذا في حياته السالفة (على مذهب التقمُّص) كان أميراً يدعى «ويسنترو» طُرد ونُفي مع قرينته وولديه الصغيرين من المملكة، فقطعا الصحاري والجبال باحثين على ملجأ. فاشتد الجوع بالولدين وقيل في نص الكتاب «فإذ رأى الطفلان أشجاراً حاملة ثماراً عند سفح الجبل بكيا للحصول على ثمرها. فلما رأت الأشجارُ الباسقةُ الولدين باكيين، طأطأت رؤوسها واقتربت منهما» (انظر الأبيات 34 و35).

وواضح أن أصحاب البدع ومؤلف القرآن اقتبسوا قصصهم من هذه القصة، وإن كانوا لم يعرفوا أصلها الحقيقي. وما أكبر الفرق بين الأناجيل الصحيحة الصادقة وكتب أصحاب البدع الموضوعة، فإن الحواريين الذين كتبوا أناجيلهم الصادقة الصحيحة بوحي الله المقبولة عند جميع المسيحيين في غنى عن الاقتباس من قصص الوثنيين، لأنهم دوَّنوا كتبهم مما شاهدوه وعرفوه، أو ما بلغهم من شهادة الذين عاينوا الحوادث بأعينهم (لوقا 1:1-4). وكانوا في كل الأحوال تحت إرشاد الوحي الإلهي والإلهام الرباني، وعاشوا في عصر المسيح ذاته. ولكن لما كان أصحاب البدع قد كتبوا كتبهم في الأزمنة المتأخرة، وكانوا جهلة مولعين بتصديق الخزعبلات، دوَّنوا في كتبهم التي ألَّفوها للجهلة والعوام المغرمين بحب الغرائب قصصاً كثيرة لم يعرفوا أصلها. فظهر من هذه الخرافة وأمثالها أن المعترضين على القرآن أوردوا أدلة كثيرة لتأييد قولهم من أن «النبي الأمي» انخدع بمثل هذه الخرافات.

(3) قصة طفولية المسيح عيسى: ورد في سورة آل عمران 3:46 و49 أنه قبل مولد المسيح قال الملاك عنه: «ويكلم الناس في المهد.. أني قد جئتكم بآيةٍ من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله». وورد في سورة المائدة 5:110 «إذ قال الله يا عيسى اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس، تكلم الناس في المهد وكهلاً، وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بأذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بأذني، وتبرئ الأكمه والأبرص، وإذ تخرج الموتى بإذني. وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم: إن هذا إلا سحرٌ مبين».

ولقد اقتبس القرآن هذه المعلومات من كتب كاذبة، لا من إنجيل صحيح، لأنه اتضح مما تقدم أن مخاطبة المسيح الموهومة لشجرة النخل مبنيَّة على ما توهَّمه البعض من أنه تكلم في المهد. أما معجزة إحياء الطير المصنوع من الطين فأُخذت من كتاب يوناني اسمه «بشارة توما الإسرائيلي» (فصل 2): «لما بلغ الصبي يسوع من العمر خمس سنين كان يلعب في جدول، فجمع المياه الجارية إلى بحيرات، وكان يجعلها على الفور نظيفة، ورتَّبها بمجرد كلمة، ثم جعل بعض طين ناعماً وصنع منه اثني عشر عصفوراً. وكان يوم السبت لما فعل هذه الأشياء. ومع أنه كان يوجد أولاد كثيرون يلعبون معه إلا أن أحد اليهود لما رأى ما فعله يسوع وأنه كان يلعب في يوم السبت، ذهب وأخبر والده يوسف قائلاً: إن ابنك هو عند جداول المياه وقد أخذ طيناً وصنع منه اثني عشر طيراً ونقض يوم السبت. فأتى يوسف إلى المكان وعاين ما فعله الولد فصرخ قائلاً له: لماذا تفعل في السبت هذه الأشياء التي لا يحل فعلها؟ فطبق يسوع كفيه الواحد على الآخر وصاح بالعصافير قائلاً لها: اذهبي. فطارت العصافير! فذُهل اليهود الذين شاهدوا هذه الأمور. ولما انصرفوا أخبروا رؤساءهم بما فعله يسوع».

وهذه الخرافة كلها توجد أيضاً في كتاب عربي يُسمى «إنجيل الطفولية» (فصل 36) وذكرت بصورة أخرى في فصل 46 من نفس الكتاب، لأن آخره مأخوذٌ من «بشارة توما الإسرائيلي».

ولنرجع إلى ما ذُكر من أن المسيح تكلم لما كان طفلاً في المهد. جاء في سورة مريم 19:29 و30 أنه لما وبَّخ القومُ مريم، أشارت إلى الطفل يسوع ليجيب عنها. فلما قالوا لها: «كيف نكلم من كان في المهد صبياً؟» أجاب: «إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً». وورد في «إنجيل الطفولية» (فصل 1) «قد وجدنا في كتاب يوسيفوس رئيس الكهنة الذي كان على عهد المسيح، وقد قال أناسٌ إن قيافا قال إن يسوع تكلم حين كان في المهد، وقال لمريم أمه: إني أنا المسيح ابن الله الذي ولدتِني كما بشَّرك جبرائيل الملاك، وأبي أرسلني لخلاص العالم».

فإذا قارنا بين هذا القول وما ورد في القرآن نرى أن محمداً غيَّر في هذه الأقوال الوهمية المنسوبة إلى المسيح بكيفية تلائم اعتقاده وتعليمه. ولكن مما لا شك فيه أن محمداً أخذ هذه القصة الكاذبة من الكتاب المذكور. وإذا سأل سائل: كيف توصَّل إلى انتحالها وأين تيسَّر له ذلك؟ قلنا: إن الكتاب المسمى «إنجيل الطفولية» مترجم من القبطية إلى اللغة العربية. وبما أن ماريا القبطية كانت من سراري محمد فلا بد أنه سمع هذه الخرافة منها لأنها كانت جاهلة، فتوهَّمت أن هذه القصة كانت في الإنجيل الصحيح الأصلي، فأخذها منها وتصرف في روايتها الشفاهية قليلاً ونقحها ودوَّنها في القرآن.

فإذا أصرَّ إنسان وقال: ربما تكون هذه القصة صحيحة، نقول: لا يمكن أن تكون صحيحة، لأنه يؤخذ من إنجيل يوحنا 2:11 أن المسيح لم يفعل معجزة في طفولته، وقيل تعليقاً على معجزته في عرس قانا الجليل، التي صنعها لما بلغ من العمر أكثر من ثلاثين سنة، إنها كانت بدء معجزاته وآياته.

غير أن باقي معجزات المسيح المذكورة في القرآن هي حقيقية وحدثت فعلاً، ما عدا معجزة المائدة التي ادَّعى القرآن أن المسيح أنزلها من السماء. فقد ذكر القرآن أنه طهَّر البرص وأقام الموتى وأعطى بصراً للعميان، وهذا يطابق ما ورد في البشائر الأربع الصحيحة. أما ما ورد في القرآن بخصوص المائدة (في سورة المائدة 5:112-115): «إذ قال الحواريون: يا عيسى ابن مريم، هل يستطيع ربك أن يُنزل علينا مائدة من السماء؟ قال: اتقوا الله إن كنتم مؤمنين. قالوا: نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صَدَقتنا ونكون عليها من الشاهدين. قال عيسى ابن مريم: اللهم ربنا أنزِل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأوَّلنا وآخرنا، وآيةً منك، وارزُقنا وأنت خير الرازقين. قال الله: إني مُنزلها عليكم». ولم ترد هذه المعجزة في أي كتاب من الكتب المسيحية، ولا شك أنها لم تحدث، ولكننا نرى أنها نشأت عن عدم فهم بعض عبارات واردة في العهد الجديد. مثلاً ورد في إنجيل متى 26:20-29 وإنجيل مرقس 14:17-25 وإنجيل لوقا 22:14-30 وإنجيل يوحنا 13:1-30 ذكر العشاء الرباني الذي اشترك فيه المسيح مع الحواريين في آخر ليلة من وجوده بالجسد في هذه الحياة الدنيا وذلك قبل يوم صلبه. ومن ذلك الوقت إلى يومنا يمارس المسيحيون الحقيقيون العشاء الرباني حسب أمره تذكاراً لصلبه. وقد ورد في إنجيل لوقا 22:30 بخصوص مائدة المسيح: «لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي، وتجلسوا على كراسي تدينون أسباط إسرائيل الإثني عشر». فإذا سأل سائل: لماذا يقول المسلمون إن هذه المائدة نزلت من السماء؟ قلنا: ربما توهموا أن لهذا علاقة بما ذكر في أعمال الرسل 10:9-16 وهو: «ثم في الغد فيما هم يسافرون ويقتربون إلى المدينة صعد بطرس على السطح ليصلي نحو الساعة السادسة فجاع كثيراً واشتهى أن يأكل. وبينما هم يهيئون له وقعت عليه غيبة فرأى السماء مفتوحة وإناء نازلاً عليه مثل ملاءة عظيمة مربوطة بأربعة أطراف ومدلاة على الأرض، وكان فيها كل دواب الأرض والوحوش والزحافات وطيور السماء. وصار إليه صوت: قم يا بطرس اذبح وكُل. فقال بطرس: كلا يا رب لأني لم آكل قط شيئاً دنساً أو نجساً. فصار إليه أيضاً صوت ثانية: ما طهَّره الله فلا تدنِّسه أنت. وكان هذا على ثلاث مرات، ثم ارتفع الإناء أيضاً إلى السماء». غير أن هذه كانت رؤيا فقط، ولا شك أن عدم فهم الكتاب المقدس حق الفهم هو منشأ حكاية المائدة في القرآن.

ونتقدم الآن إلى بعض ما ورد في القرآن عن المسيح وأمه مريم العذراء، فمن ذلك سورة المائدة 5:116 «إذ قال الله: يا عيسى ابن مريم، أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟» وورد في سورة النساء 4:171 «يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم، ولا تقولوا على الله إلا الحق. إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فآمِنوا بالله ورسوله ولا تقولوا ثلاثة. انتهوا خيراً لكم. إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد. له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً». وورد في سورة المائدة 5:73 «لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة، وما من إله إلا إله واحد. وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسنَّ الذين كفروا منهم عذاب أليم».

فيتضح من هذه الآيات أن محمداً سمع (كما قال جلال الدين ويحيى) من بعض أصحاب البدع من النصارى أنه يوجد ثلاثة آلهة حسب وهمهم، هم الله سبحانه، ومريم، وعيسى. فردَّ القرآن على آراء أصحاب البدع الكفرية وكرر المرة بعد الأخرى أن الله واحد. وكل من له إلمام بالتوراة والإنجيل يعرف أن وحدانية الله هي أساس الدين المسيحي، فقد ورد في التوراة (تثنية 6:4) «اسمع يا إسرائيل: الرب إلهنا إله واحد» وفي إنجيل مرقس (12:29) استشهد المسيح بهذه الآية وأيَّد صحتها بغاية التأكيد. ولم يقل مسيحي حقيقي إن مريم هي إله. نعم إنه مما يحزن القلب أن عبادة مريم دخلت بعض الكنائس، ولكنها في الحقيقة عبادة أصنام تناقض وصايا الله وتعاليم التوراة والإنجيل، إلا أنها موافقة لبعض الكتب الموضوعة التي اقتبس منها محمد القصص المذكورة عن مريم العذراء. فقد ورد في سورة النساء 4:157 و158 أن اليهود قالوا «إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله، وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبِّه لهم.. وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً» فتعليم القرآن في هذه العبارة منافٍ على خط مستقيم لجميع كتب الأنبياء والإنجيل، ولكنه يطابق غاية المطابقة مذاهب بعض أصحاب البدع الضالين، لأن إيرينيوس (أحد علماء المسيحيين القدماء) قال إن باسليديس (أحد زعماء أصحاب البدع في الأزمنة القديمة) كان يعلّم أتباعه أن المسيح «لم يتألم، وأن شخصاً اسمه سمعان من قيروان التزم أن يحمل صليبه لأجله، وأن هذا الرجل هو الذي صُلب جهلاً وخطأً، فإن المسيح غيَّر شكل هذا الرجل ليتوهَّموا أنه هو عيسى نفسه».

فمن هنا يظهر أن محمداً اتخذ هذا المذهب عن أتباع باسليديس. ومع ذلك فكل من ينكر أن المسيح صُلب حقيقة ومات على الصليب يناقض تعاليم الأنبياء والإنجيل، لأن الأنبياء سبق أن تنبأوا أنه لا بد أن المسيح الموعود به يبذل حياته الكريمة ليكفِّر عن خطايا جميع البشر. وشهد تلاميذ المسيح أنهم شاهدوا بأعينهم مخلِّصهم مصلوباً، ولكن محمداً لم يدرِ أن إنكار باسيليديس الزائف لصلب المسيح هو بدعة مبنية على ضلالة من ضلالاته، فإنه قال إن المسيح لم يتَّخذ طبيعة بشرية حقيقية، ولكنه اتخذ شِبه جسد لا وجود له حقيقة، وإنه كان لا يمكن أن يولد أو يتألم أو يُصلب، ولكنه خدع الناس وأغراهم على التصديق بأنه تألم وصُلب. ولكن هذا المذهب الضال ينافي كل ما في الإنجيل والقرآن، فكان لابد أن ينهار بناؤه وأركانه. وإن كانت أصوله كاذبة فكيف تثبت فروعه التي هي أقل قيمة من أساسه؟ ولكن محمداً قبِل الفروع ودوَّنها في قرآنه، وصرف النظر عن الأصل والمبدأ!

وقال المسلمون إن المسيح أوصى تلاميذه أن ينتظروا مجيء نبي آخر اسمه «أحمد» وأوردوا آية من القرآن لتأييد هذا الوهم والزعم، فقد ورد في سورة الصف 61:6 «وإذ قال عيسى ابن مريم: يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم، مصدقاً لما بين يدي من التوراة، ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد». ولا شك أن هذه الآية تشير إلى ما ورد في إنجيل يوحنا 14:16 و26 و15:26 و16:7 بخصوص الفارقليط أو البارقليط وهو المعزي. لكن كل من طالع هذه الأصحاحات بتروٍ وإمعان يرى أنه لم يرد فيها ذكرٌ لنبي يأتي بعد المسيح بل بالعكس، فإن المسيح كان يتكلم عن الروح القدس، كما هو واضح من هذه الآيات. وقد تم وعد المسيح بعد صعوده بأيام قليلة. وورد في أعمال الرسل 2:1-11 نبأٌ عن تتميم هذا الوعد وحلول الروح القدس على التلاميذ. ومنشأ خطإ القرآن هو أنه لما كان العرب يجهلون معنى «فارقليط» توهَّموا أن ترجمة هذه الكلمة الحقيقي هو «أحمد». والحقيقة أن معنى الكلمة اليونانية الصحيح هو «مُعزٍّ». ولكن توجد كلمة أخرى باللغة اليونانية يجيء النطق بها إلى آذان الأجانب (مثل العرب) قريبة مما يلفظه العرب «فارقليط» ومعنى هذه الكلمة الثانية هو المشهور الذائع الصيت. فيُحتمل أن أحد العرب الذين يجهلون اليونانية سمع هاتين الكلمتين فالتبستا عليه، فتوهَّم أن معنى «فارقليط» أحمد. ويسهل وقوع العرب في مثل هذا الخطأ، لأنه إذا سمع أجنبيٌّ عربياً يتكلم عن «قلب» تعذَّر عليه التمييز بين «قلب» و«كلب». وقد يتوهم أن المقصود «كلب» فتلتبس عليه العبارة. ولا يخفى أن «ماني» المصور الشهير نبغ في بلاد الفرس، وادَّعى النبوَّة وقال إنه الفارقيلط وإن المسيح شهد له. غير أن المسيحيين رفضوا دعواه لاطلاعهم على حقيقة تعاليم الإنجيل، ولمعرفتهم أن المسيح لم يتنبأ عن نبي حقيقي يأتي بعده.

وورد في الأحاديث أنه لما ينزل المسيح من السماء يقيم في هذه الحياة الدنيا أربعين سنة ويتزوج (انظر «عرائس المجالس» (ص 554). وكل من له اطلاع على التوراة والإنجيل يعرف منشأ هذا الخطأ، فقد ورد في سفر الرؤيا 19:7 و9 «لنفرح ونتهلل ونعطه المجد، لأن عرس الحمل قد جاء، وامرأته هيأت نفسها، وأُعطيت أن تلبس بزاً نقياً بهياً لأن البز هو تبررات القديسين. وقال لي: اكتب طوبى للمدعوين إلى عشاء عرس الحمل». ومن المعلوم أن «الحمل» هو أحد ألقاب المسيح. وهنا ذُكر صريحاً عرسه عند رجوعه إلى الأرض. ولكن إذا سأل سائل: من هي العروس؟ وما معنى هذه الآيات؟ قلنا: إنه ورد في سفر الرؤيا 21:2 «وأنا يوحنا رأيت المدينة المقدسة أورشليم الجديدة نازلة من السماء من عند الله مهيَّأة كعروس مزينة لرجلها». وأورشليم الجديدة تعني الكنيسة المسيحية المكملة المطهرة كما في أفسس 5:22-32. هي العروس التي يقترن بها المسيح، أي التي يقبلها ويضمها عند رجوعه. والمقصود بقوله «يتزوجها» الإشارة إلى المحبة الكاملة والاتحاد التام بين المخلِّص والمخلَّصين. ومن هنا نرى أن هذه القصة الواردة في الأحاديث نشأت عن عدم فهم أقوال العهد الجديد. أما قولهم إن المسيح يقيم في هذه الدنيا أربعين سنة بعد رجوعه فناشئ عن قول أعمال الرسل 1:3 ومعناها أنه أقام مع تلاميذه أربعين يوماً بعد قيامته. أما ما ورد في الأحاديث والتفاسير من أن المسيح يموت بعد رجوعه فمبنيٌّ على ما ورد في سورة آل عمران 3:54 «يا عيسى إني متوفيك». لكنا لا نجزم بأن هذا معنى الآية الحقيقي، لأن هذا التعليم يناقض نصوص الكتاب المقدس الصريحة، فقد ورد في سفر الرؤيا 1:17 و18 قول المسيح: «أنا هو الأول والآخِر، والحيُّ، وكنت ميتاً وها أنا حي إلى أبد الآبدين. آمين. ولي مفاتيح الهاوية والموت». غير أن أصل ما ورد في الأحاديث بخصوص هذا الأمر عبارة وردت في كتاب «نياحة أبينا القديس الشيخ يوسف النجار» (فصل 31) بخصوص النبيين أخنوخ وإيليا اللذين صعدا إلى السماء بدون أن يذوقا الموت «ينبغي لأولئك أن يأتوا إلى العالم في آخر الزمان في يوم القلق والخوف والشدة والضيق ويموتوا». وورد كذلك في كتاب قبطي عنوانه «تاريخ رقاد القديسة مريم» «أما من جهة هذين الآخَرين (أي أخنوخ وإيليا) فينبغي أن يذوقا الموت أخيراً».

وبما أن أنصار محمد وأصحابه سمعوا هذا القول من الذين اطلعوا على هذين الكتابين الساقطين، قالوا بطريق الاستنتاج إن المسيح لابد أن يذوق الموت أيضاً مثل أخنوخ وإيليا، لأنهم توهَّموا أنه صعد إلى السماء مثلهما بدون أن يذوق الموت، فلا بد أنه سيموت بعد مجيئه ثانيةً. وفسروا آية سورة آل عمران 55 حسب هذا الزعم، فقوله في سورة العنكبوت 29:57 «كل نفس ذائقة الموت» ومثلها في سورة آل عمران 3:185 هو مبني على هذا المذهب (ما عدا حادثة موت المسيح بعد رجوعه) الذي منشأه أصحاب البدع والضلالة.

 

(4) في ذكر بعض أشياء شتى أخذت من كتب المسيحيين أو من مؤلفات أصحاب البدع والضلالة: فمن هذا القبيل الحكاية الواردة في «قصص الأنبياء» (ص 11) «لما أراد الله أن يخلق آدم، أرسل الملائكة المقربين واحداً بعد الآخر لكي يأتوا بقبضة من أديم الأرض. ولما خاب مسعاهم نزل أخيراً عزرائيل ووضع يده وأخذ قبضة من أديم كل الأرض، وأتى بها إلى المولى قائلاً: يا الله أنت تعرف ها أتيت بها». وقال أبو الفداء نقلاً عن «تاريخ الكامل» لابن الأثير «قال النبي ص إن الله تعالى خلق آدم عليه السلام من قبضة قبضها من جميع الأرض، وإنما سُمي آدم لأنه خُلق من أديم الأرض».

أما قضية نزول الملاك من السماء لأخذ شيء من أديم الأرض، وأنه طلب قبضة من الأرض حسب الأحاديث، فمأخوذة من أقوال «مرقيون» وهو يوناني من أصحاب البدع الذين انحرفوا عن الدين القويم، لأن «يذنيق» أحد المؤلفين الأرمن القدماء أورد في كتابه «ردُّ البدع» (فصل 4) العبارة الآتية من أحد كتب مرقيون وترجمتها «ولما رأى إله التوراة أن هذا العالم كان جميلاً عزم على عمل الإنسان منه (أي من هذا العالم). ولما نزل إلى الأرض إلى المادة (أو الهيولي) قال: أعطيني شيئاً من طينك وأنا أعطيك نسمة من عندي.. ولما أعطته المادة شيئاً من أديمها خلقه (أي آدم) ونفخ فيه النسمة.. ولهذا السبب سُمي آدم لأنه خُلق من أديم الأرض».

وتقول بدعة مرقيون إن الشخص الذي يسميه «إله التوراة» الذي أخذ قبضة من الأرض ليخلق منها الإنسان هو ملاك لا غير، لأن مرقيون المبتدع وأتباعه قالوا إن التوراة نزلت من عند أحد الملائكة الذي كان عدواً لله، وكانوا يسمون هذا الملاك «رب العالمين» و«خالق المخلوقات» و«رئيس هذا العالم». ولا يخفى أن قولهم «رئيس هذا العالم» مأخوذ من الإنجيل وصفاً للشيطان (يوحنا 14:30). وقد قال المسلمون إن هذه الآية نبوَّة عن محمد لأنهم جهلوا معناها الحقيقي.

وقال مرقيون إن هذا الملاك أقام في السماء الثانية، وإنه لم يكن يعرف في أول الأمر بوجود الله. ولكنه لما عرف بوجوده عاداه. وقال مرقيون إن اسم المولى واجب الوجود هو «الإله المجهول». وحاول الملاك منع الناس عن معرفة الله الإله الحقيقي لئلا يكرموه ويعبدوه. فكل هذه الآراء والمذاهب تشبه ما قاله المسلمون من أن عزازيل كان مقيماً أيضاً في السماء الثانية. ويوجد منشأ باقي قصة عزازيل في كتب أشياع زردشت كما سنبينه في الفصل الخامس من هذا الكتاب.

وورد في سورة مريم 19:68-72 «فوربّك لنحشرنّهم والشياطين ثم لنحصرنهم حول جهنم جثياً، ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتياً، ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صلياً وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً».

واختلف المفسرون في معنى هذه الآيات، فقال البعض إنه لابد أن كل المؤمنين يردون جهنم ولكن لا يضرُّهم لهبها. وقال البعض الآخر إن الإشارة هي إلى «الصراط» الذي لابد أن يمر عليه الجميع وهو ممدود على جهنم. وسنتحدث عن الصراط في الفصل الخامس.

ولكن تعليقنا على القول: «إن منكم إلا واردها» أنه يُحتمل أن هذه العبارة تشير إلى ما استنتجه المسيحيون من إنجيل مرقس 9:49 و1كورنثوس 3:13، وهو أنه يوجد مكان يتطهَّر فيه عصاة المسيحيين من خطاياهم بواسطة النار. أما إذا كانت عبارة القرآن تشير إلى «الصراط» فيكون قد أخذ هذا المذهب من أصحاب زردشت وليس من المسيحيين، كما سنوضح في ما بعد.

وقد ورد ذكر الميزان في سورة الشوري 42:17«الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان، وما يدريك لعل الساعة قريب» وكذلك ورد في سورة القارعة 101:6-8 «فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية، وأما من خفَّت موازينه فأمُّه هاوية». ولا لزوم لأن نذكر كل ما ورد في الأحاديث بخصوص الميزان الهائل، لأنها معروفة. فإذا بحثنا عن أصل هذه القصة نجد أنها مأخوذة من كتاب «عهد إبراهيم» الذي أُلف في مصر أولاً ثم ترجم إلى اللغة اليونانية والعربية، فنرى في هذا الكتاب ما يشبه ما ذكره القرآن بخصوص وزن الأعمال الصالحة والطالحة. فقد ورد فيه أنه لما شرع ملاك الموت بأمر الله في القبض على روح إبراهيم، طلب منه خليل الله أن يعاين غرائب السماء والأرض قبل أن يموت. فلما أُذِن له عرج إلى السماء وشاهد كل شيء، وبعد هنيهة دخل السماء الثانية ونظر الميزان يزن فيه أحد الملائكة أعمال الناس. ونص تلك العبارة «إن كرسياً كان موضوعاً في وسط البابين، وكان جالساً عليه رجل عجيب، وأمامه مائدة تشبه البلور وكلها من ذهب وكتان رفيع. وعلى المائدة كتاب سُمكه ست أذرع وعرضه عشر أذرع. وعلى يمينها ويسارها ملاكان يمسكان بورقة وحبر وقلم. وأمام المائدة ملاكٌ يشبه النور يمسك ميزاناً بيده. وعلى اليسار ملاك من نار عليه علامات القسوة والفظاظة والغلظة يمسك بوقاً فيه نار آكلة، لامتحان الخطاة. وكان الرجل العجيب الجالس على الكرسي يدين ويمتحن الأرواح، والملاكان اللذان عن اليمين واليسار يكتبان ويسجّلان أعمال الناس. فكان الملاك الذي على اليمين يكتب ويسجّل الأعمال الصالحة، والملاك الذي على اليسار يكتب الخطايا. أما الملاك الذي أمام المائدة والممسك الميزان فكان يزن الأرواح، والملاك الناري الممسك بالنار كان يمتحن الأرواح. فاستفهم إبراهيم من ميخائيل رئيس الملائكة: ما هذه الأشياء التي نشاهدها؟ فقال له رئيس الملائكة: إن ما تراه أيها الفاضل إبراهيم هو الحساب والعقاب والثواب» (كتاب «عهد إبراهيم» صورة 1 فصل 12). وذكر بعد هذا أن إبراهيم رأى أن الروح التي تكون أعمالها الصالحة والطالحة متساوية لا تُحسب من المخلَّصين ولا من الهالكين، ولكنها تقيم في موضع وسط بين الاثنين». وهذا المذهب يشبه ما ورد في سورة الأعراف 7:46 «وبينهما حجاب، وعلى الأعراف رجال».

فيتَّضح مما تقدم أن محمداً اقتبس مسألة الميزان الذي ذكره في القرآن من هذا الكتاب الموضوع الذي أُلف في مصر نحو 400 سنة قبل الهجرة، والأرجح أنه عرف مضمون هذا الكتاب من مارية القبطية التي كانت سريته. غير أن منشأ قضية الميزان الواردة في عهد إبراهيم ليست من التوراة والإنجيل، ولكن منشأها كتاب قديم جداً عنوانه «كتاب الأموات» وُجدت منه نُسخ كثيرة بخط اليد في قبور المصريين عبدة الأصنام. ودفنوا هذا الكتاب مع الموتى، لأن قدماء المصريين كانوا يعتقدون أن أحد آلهتهم الكذبة واسمه «تهوتي» ألَّفه، وزعموا أن الموتى يحتاجون إلى التعلم منه بعد موتهم. وفي أول فصل 125 من هذا الكتاب صورة إلهين اسمهما «حور» و«أنبو» وضعا في كفة من هذا الميزان قلب رجل بار صالح توفي. ووضعا في الكفة الأخرى تمثال إله آخر من آلهتهم اسمه «مأت» أو الصدق. أما إلههم «تهوتي» فكان يقيد أعمال الميت في سجل.

فيتضح مما ذكر أن القرآن اتخذ مسألة الميزان من كتاب «عهد إبراهيم» وأن مسألة الميزان فيه مأخوذة من الروايات الشفاهية التي وصلت من السلف إلى الخلف من اعتقادات قدماء المصريين المدوَّنة في «كتاب الأموات» الذي هو مصدر ذكر الميزان الأصلي.

وورد في الأحاديث أن محمداً رأى في ليلة المعراج آدم أب البشر تارة يبكي ويولول وأخرى يفرح ويهلل (مشكاة المصابيح صفحة 521) حيث يقول: «فلما فتح علونا السماء الدنيا إذا رجل قاعد على يمينه وعلى يساره أسودة. إذا نظر قِبل يمينه ضحك، وإذا نظر قِبل شماله بكى. فقال: مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح. قلت لجبرائيل: من هذا؟ قال: هذا آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار. فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر عن شماله بكى».

وأصل هذا الحديث أيضاً من كتاب «عهد إبراهيم» فقد ورد فيه (صورة 1 فصل 11) «فحوَّل ميخائيل العربة وحمل إبراهيم إلى جهة الشرق في أول باب السماء، فرأى إبراهيم طريقين إحداهما طريق كرب وضيقة والأخرى واسعة وعريضة. ورأى هناك بابين أحدهما واسع يوصل إلى الطريق الواسعة، وباب ضيق يوصل إلى الطريق الضيقة. ورأيت هناك خارج البابين رجلاً جالساً على كرسي مرصع بالذهب وكانت هيئته مهيبة كهيبة السيد. ورأيت أرواحاً كثيرة تسوقها الملائكة وتُدخِلها من الباب الواسع، ورأيت أرواحاً أخرى وهي قليلة العدد تحملها الملائكة وتُدخِلها في الباب الضيق. ولما رأى الرجل العجيب الذي كان مستوياً على الكرسي الذهبي أن الذين يدخلون من الباب الضيق قليلون، والذين يدخلون من الباب الواسع كثيرون، أمسك حالاً هذا الرجل العجيب شعر رأسه وجانبَي لحيته وألقى بنفسه من الكرسي إلى الأرض ينوح ويندب. ولما رأى أرواحاً كثيرة تدخل من الباب الضيق كان يقوم من على الأرض ويجلس على كرسيه مهللاً. ثم استفهم إبراهيم من رئيس الملائكة وقال له: يا مولاي الرئيس، من هذا الرجل العجيب الموشح بمثل هذا المجد وهو تارة يبكي ويولول وأخرى يفرح ويهلل؟ فقال له: إن هذا الشخص المجرد من الجسد (الملاك) هو آدم، أول شخص خُلق، وهو في هذا المجد العظيم يشاهد العالم لأن الجميع تناسلوا منه. فإذا رأى أرواحاً كثيرة تدخل من الباب الضيق يقوم ويجلس على كرسيه فرحاً ومهللاً من السرور، لأن الباب الضيق هو باب الصالحين المؤدي إلى الحياة، والذين يدخلون منه يذهبون إلى جنة النعيم. ولهذا السبب يفرح لأنه يرى الأنفس تفوز بالنجاة. ولما يرى أنفساً كثيرة تدخل من الباب الواسع ينتف شعر رأسه ويلقي بنفسه على الأرض باكياً ومولولاً بحُرقة، لأن الباب الواسع هو باب الخطاة الذي يؤدي إلى الهلاك والعقاب الأبدي».

ومع أنه يسهل على كل عالم إقامة الدليل على أن القرآن أخذ أشياء أخرى كثيرة من كتب جهلة المسيحيين الكاذبة، ومن تأليف أصحاب البدع الساقطة، فقد اكتفينا بما تقدم.

ويناسب قبل ختام هذا الفصل أن نسأل: بما أن محمداً اقتبس مقاطع كثيرة من كتب باطلة لا أصل لها، فهل اقتبس أيضاً بعض آيات الأناجيل أو رسائل الحواريين، خلاف ما اقتبسه عن ولادة المسيح، وعن معجزاته الكثيرة؟

الجواب على هذا السؤال المهم هو: اقتبس القرآن من الإنجيل آية واحدة، وكذلك وردت عبارة في الأحاديث ربما تكون مقتبسة من رسائل بولس الرسول:

(1) ورد في سورة الأعراف 7:40 «إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتَّح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سَم الخياط». فالشطر الأخير من هذه الآية مأخوذ من قول المسيح: «دخول جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله» (إنجيل متى 19:24 وإنجيل مرقس 10:25 وإنجيل لوقا 18:25).

(2) ورد في الأحاديث عن أبي هريرة أن محمداً قال إن الله قال «أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» (مشكاة المصابيح صفحة 487) وهي مقتبسة من رسالة كورنثوس الأولى 2:9«ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على بال إنسان ما أعدَّه الله للذين يحبونه».

ولا يمكن إنكار أقوال المعترضين من أن محمداً أخذ من الإنجيل وباقي كتب المسيحيين، ولا سيما مؤلفات أصحاب البدع الباطلة، فهي أحد مصادر تعاليم الديانة الإسلامية.

 

الفصل الخامس

تأثيرات زردشتية في القرآن والحديث

قال مؤرخو العرب إن ملوك الفرس كانوا متسلطين على كثير من ممالك العرب، قبل مولد محمد وفي عصره أيضاً. قال أبو الفداء إن «كسرى أنوشروان» أرسل جيوشه إلى مملكة الحيرة وعزل ملكها «الحارث» وولى عوضاً عنه أحد رعاياه اسمه «منذر ماء السماء». وبعد ذلك أرسل هذا الملك المشهور جيشه تحت إمرة «وهرز» إلى بلاد اليمن. وكان أول ما فعله بعد ذلك أنه طرد الحبَش وولى «أبا السيف» على مملكة أسلافه (انظر تاريخ أبي الفداء باب 2). ولكن بعد قليل تولى «وهرز» نفسه على مملكة اليمن، وسلَّم لذريته السيادة (سيرة الرسول لابن هشام ص 24 و25). وقال أبو الفداء: «كانت المناذرة آل نصر بن ربيعة عمالاً للأكاسرة على عرب العراق» (باب 2). وقال عن اليمن: «ثم ملك اليمن بعدهم (أي أهل الحِمْيَر) من الحبشة أربعة، ومن الفرس ثمانية، ثم صارت للإسلام».

فيتضح من هذا أنه كان بين أهل الفرس وبين العرب تواصلٌ واختلاط زمن أيام محمد، وقبله. وبما أن الفرس كانوا متقدمين في العلوم والمدنيَّة أكثر من العرب في زمن الجاهلية، كان لابد أن دينهم وعلومهم وعاداتهم وفروضهم أثرت تأثيراً عظيماً في العرب. ويتضح من التواريخ ومن شهادة مفسري القرآن أن قصص العجم وأشعارهم تواترت في ذلك الوقت بين قبائل جزيرة العرب، فتداولوها تداولاً عاماً. وهذا يوافق قول ابن هشام إن العرب لم يسمعوا في عصر محمد قصص رستم وأسفنديار وملوك فارس القدماء فقط، بل إن بعض قريش استحسنوها وفضلوها على قصص القرآن. وهاك نص عبارة ابن هشام: «والنصر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي كان إذا جلس رسول الله مجلساً فدعا فيه إلى الله تعالى وتلا فيه القرآن وحذر قريشاً ما أصاب الأمم الخالية، خلفه في مجلسه إذ قام، فحدَّثهم عن رستم الشديد وعن أسفنديار وملوك فارس، ثم يقول: والله ما محمد بأحسن حديثاً مني، وما حديثه إلا أساطير الأولين اكتتبها كما اكتتبتُها» فأنزل الله فيه «وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليهم بكرة وأصيلاً. قُل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض أنه كان غفوراً رحيماً» (سورة الفرقان 25:5 و6). ولاشك أن هذه القصص عن رستم وأسفنديار وملوك فارس هي القصص التي أخذها الفردوسي بعد محمد بأجيال من مجموعة قصص لأحد الفلاحين ونظمها شعراً، ودُوِّنت في «الشاهنامة». وبما أن العرب طالعوا قصص ملوك الفرس وتواريخهم، فلا نتصور أنهم كانوا يجهلون قصة جمشيد ويجهلون خرافات الفرس عن معراج أرتاويراف وزردشت، ووصف الفردوس، وصراط جينود، وشجرة حوابة، وقصة خروج أهرمن من الظلمات الأولية، فلابد أنهم كانوا يعرفونها حق المعرفة.

فهل أثَّرت هذه القضايا وما شابهها في القرآن وفي الأحاديث المتواترة بين المسلمين أم لم تؤثر فيهما؟ يؤكد منتقدو القرآن أن كل قضية من هذه القضايا أثرت تأثيراً مهماً في القرآن والأحاديث إلى درجة بليغة، حتى أصبحت قصص قدماء الفرس واعتقاداتهم أحد مصادر الإسلام. وقال منتقدو القرآن إن كثيراً من الخرافات التي كانت متداولة في بلاد الفرس في قديم الزمان لم تقتصر على بلاد فارس فقط، بل تناولت قدماء الهنود وانتشرت بينهم أيضاً، لأن أجداد الهنود زحفوا من «هرات» إلى الهند واستوطنوها. فبعض تلك الأوهام والآراء والمذاهب هي الميراث الأدبي والديني لهاتين الأمَّتين، وديانتهم مبنية على هذه الأوهام والآراء التي ورثوها عن السلف. ومع أن مصدر بعضها كان في بلاد فارس بعد توطن أجداد الهنود في الهند، ولكنها بمرور الوقت وصلت إلى الهند وانتشرت بين أهلها فتمسكوا بها. ولكن بما أنه لا يجوز التسليم بصحة قول المنتقدين بدون أن يقيموا برهاناً كافياً، وجب أن نطلب منهم أن يأتوا ببرهانهم إن كانوا صادقين. فأوردوا بعض آيات القرآن والأحاديث. فلننظر فيها بتدقيق ثم لنقارنها بما ورد في كتب الفرس والهند القديمة عن مثل هذه الأمور وما أشبهها.

(1) قصة معراج محمد: النبأ عن المعراج في ليلة الإسراء ورد في القرآن في سورة الإسراء 17:1 «سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا. إنه هو السميع البصير». وقد اختلف مفسرو المسلمين اختلافاً عظيماً في تفسير هذه الآية، فقال ابن إسحق إنه ورد في الأحاديث أن عائشة كانت تقول: «ما فُقد جسد رسول الله ص ولكن الله أسرى بروحه». وورد في الأحاديث أيضاً أن محمداً ذاته قال: «تنام عيني وقلبي يقظان» (سيرة الرسول ص 139). ويُفهم مما قاله محيي الدين في تفسيره هذه الآية أنه فهم المعراج والإسراء بطريقة مجازية واستعارية، لأنه قال: «سبحان الذي أسرى» أي أتْرَهَهُ عن اللواحق المادية والنقائص التشبيهية بلسان حال التجرد والكمال في مقام العبودية الذي لا تصرف فيه أصلاً. «ليلاً» أي في ظلمة الغواشي البدنية والتعليقات الطبيعية، لأن العروج والترقي لا يكون إلا بواسطة البدن. «من المسجد الحرام» أي من مقام القلب المحرم عن أن يطوف به مشرك القوى البدنية ويرتكب فيه فواحشها وخطاياهاويحجه غوى القُوى الحيوانية من البهيمية والسبعية المنكشفة سواء إفراطها وتفريطها لعروسها عن لباس الفضيلة. «إلى المسجد الأقصى» الذي هو مقام الروح الأبعد من العالم الجسماني بشهود تجليات وسبحات الوجه وتذكر ما ذكرنا أن تصحيح كل مقام لا يكون إلا بعد الترقي إلى ما فوقه، لتفهم من قوله «لنريه من آياتنا» مشاهدة الصفات، فإن مطالعة تجليات الصفات وإن كانت في مقام القلب، لكن الذات الموصوفة بتلك الصفات لا تشاهد على الكمال بصفة الجلال إلا عند الترقي إلى مقام الروح، أي لنريه آيات صفاتنا من جهة أنها منسوبة إلينا. ونحن المشاهدون بها البارزون بصورها».

فإذا اعتمدنا على قول محمد ذاته وقول عائشة وتفسير محيي الدين، كان معراج محمد مجازياً واستعارياً وليس حقيقياً. غير أن ما قاله ابن إسحق وغيره ينافي هذا الرأي، لأنه قال إن محمداً قال إن جبريل أيقظه مرتين وأنه نام ثانية، ثم ساق الكلام قائلاً «فجاءني الثالثة فهمزني بقدمه، فجلستُ. فأخذ يعضدني. فقمت معه فخرج إلى باب المسجد فإذا دابة أبيض، بين البغل والحمار، في فخذيه جناحان يحفز بها رجلين. يضع يده في منتهى طرفه، فحملني عليه ثم خرج معي لا يفوتني ولا أفوته». قال ابن إسحق: وحدثت عن قتاده أنه قال: حدثت أن رسول الله قال: «لما دنوتُ لأركبه شَمُس، فوضع جبريل يده على مَعْرَفته، ثم قال: ألا تستحي يا بُراق مما تصنع؟ فوالله يا براق ما ركبك عبدٌ لله قبل محمد أكرم على الله منه. قال: فاستحيا حتى ارفضَّ عرقاً، ثم قرَّ حتى ركبته». قال في حديثه: فمضى رسول الله ومضى جبريل معه حتى انتهى به إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء، فألهم رسول الله فصلى بهم، ثم أتى بإناءين في أحدهما خمر وفي الآخر لبن. قال: فأخذ رسول الله ص إناء اللبن فشرب منه وترك الخمر. فقال له جبريل: هُديت للفطرة وهُديت أمتك يا محمد، وحرمت عليكم الخمر». ثم انصرف رسول الله إلى مكة.

فلما أصبح غدا على قريش فأخبرهم الخبر، فقال أكثر الناس: «هذا والله الأمر البين. إن العير لتطرد شهراً من مكة إلى الشام مدبرة، وشهراً مقبلة. أفيذهب ذلك محمد في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة؟» (سيرة الرسول لابن هشام صفحة 138 و139). وورد في مشكاة المصابيح: «عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة: أن نبي الله حدَّثهم عن ليلة أُسري به: بينما أنا في الحطيم وبما قال في الحجر، مضطجعاً، أن أتاني آت، فشق ما بين هذه وهذه (يعني من ثغرة نحره إلى شعرته) فاستخرج قلبي، ثم أُتيت بطست من ذهب مملوء إيماناً، فغسل قلبي ثم حشي، ثم أعيد. وفي رواية: غُسل البطن بماء زمزم ثم مُلئ إيماناً وحكمة. ثم أُتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار، أبيض، يُقال له البراق، يضع خطوة عند أقصى طرفه. فحُملت عليه فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا، فاستفتح. قيل: من هذا؟ قال: جبرائيل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به، فنِعم المجيء. جاء ففتح. فلما خلصت فإذا فيها آدم. فقال: هذا أبوك آدم فسلِّم عليه. فسلمتُ عليه فردَّ السلام، ثم قال: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح. ثم صعد بي حتى السماء الخامسة فاستفتح. قيل: من هذا؟ قال: جبرائيل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أُرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به فنعم المجيء. جاء ففتح. فلما خلصت فإذا هارون. قال: هذا هارون فسلم عليه فسلمت عليه، فردَّ ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبرائيل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل وقد أُرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحباً، فنعم المجيء. جاء ففتح. فلما خلصت فإذا موسى. قال: هذا موسى فسلِّم عليه. فسلمتُ عليه، فردَّ ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح. فلما جاوزتُ بكى. قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاماً بُعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي. ثم صعد بي إلى السماء السابعة، فاستفتح جبرائيل. قيل: من هذا؟ قال: جبرائيل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بُعث إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به فنعم المجيء جاء. فلما خلصت فإذا إبراهيم. قال: هذا أبوك إبراهيم فسلِّم عليه، فسلمتُ عليه، فردَّ السلام، ثم قال: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح. ثم رُفعت إلى المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة. قال: هذا سدرة المنتهى. فإذا أربعة أنهار، نهران باطنان ونهران ظاهران. قلت: ما هذا يا جبرائيل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات. ثم رُفع لي البيت المعمور، ثم أوتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فأخذت اللبن. فقال: هي الفطرة أنت عليها وأمَّتك» (مشكاة المصابيح من صفحة 518 إلى 520). ثم ساق الكلام وذكر أشياء أخرى كثيرة تختص بمعراج محمد، منها بكاء آدم وغيره مما لا لزوم إلى ذكره هنا.

ولننظر فيما إذا كان ما ذُكر عن معراج محمد أُخذ من قصة قديمة مشابهة لها أم لا. وإذا سأل سائل: ما هو مصدر قصة المعراج؟ قلنا: كتاب «أرتاويراف نامك» المكتوب باللغة البهلوية (أي اللغة الفارسية القديمة) منذ 400 سنة قبل الهجرة، في أيام أردشير بابكان ملك الفرس. وبيان ذلك أنه لما أخذت ديانة زردشت في بلاد الفرس في الانحطاط، ورغب المجوس في إحيائها في قلوب الناس، انتخبوا شاباً من أهل زرشت اسمه «أرتاويراف» وأرسلوا روحه إلى السماء. ووقع على جسده سُبات. وكان الهدف من سفره إلى السماء أن يطَّلع على كل شيء فيها ويأتيهم بنبأ. فعرج هذا الشاب إلى السماء بقيادة وإرشاد رئيس من رؤساء الملائكة اسمه «سروش» فجال من طبقة إلى أخرى وترقى بالتدريج إلى أعلى فأعلى. ولما اطلع على كل شيء أمره «أورمزد» الإله الصالح (سند وعضد مذهب زردشت) أن يرجع إلى الأرض ويخبر الزردشتية بما شاهد، ودُوِّنت هذه الأشياء بحذافيرها وكل ما جرى له في أثناء معراجه في كتاب «أرتاويراف نامك».

ولنترجم عبارتين أو ثلاث عبارات من كتاب «أرتاويراف نامك» (فصل 7 فقرة 1-4) لننظر إن كان هناك تشابه بين معراج محمد ومعراج أرتاويراف الوهمي. قال: «وقدمت القدم الأولى حتى ارتقيت إلى طبقة النجوم في حومت.. ورأيت أرواح أولئك المقدسين الذين ينبعث منهم النور كما من كوكب ساطع. ويوجد عرش ومقعد باه باهر رفيع زاهر جداً. ثم استفهمت من سروش المقدس ومن الملاك آذر ما هذا المكان، ومن هم هؤلاء الأشخاص».

وقصدهم من قولهم «طبقة الكواكب» فهو الحياط الأول أو الأدنى من فردوس الزردشتية، وأن «آذر» هو الملاك الذي له الرئاسة على النار، و«سروش» هو ملاك الطاعة وهو أحد المقدسين المؤبدين، أي الملائكة المقرَّبين لديانة زردشت، وهو الذي أرشد «أرتاويراف» في جميع أنحاء السماء وأطرافها المتنوعة، كما فعل جبرائيل بمحمد.

وبعد هذا ساق الكلام على كيفية وصول «أرتاويراف» إلى طبقة القمر، وهي الطبقة الثانية، ثم يليها طبقة الشمس وهي الطبقة الثالثة في السموات. وهكذا أرشده إلى باقي السموات. وبعد هذا ورد في فصل 11: «وأخيراً قام رئيس الملائكة «بهمن» من عرشه المرصع بالذهب فأخذني من يدي وأتى بي إلى حومت وحوخت وهورست بين أورمزد ورؤساء الملائكة وباقي المقدسين، وجوهر زردشت السامي العقل والإدراك وسائر الأمناء وأئمة الدين. ولم أرَ أبهى منهم رِواء ولا أبصر منهم هيئة. وقال بهمن: هذا أورمزد. ثم أني أردت أن أسلِّم عليه، فقال لي: السلام عليك يا أرتاويراف. مرحباً أنك أتيت من ذلك العالم الفاني إلى هذا المكان الباهي الزاهر. ثم أمر سروش المقدس والملاك آذر قائلاً: احملا أرتاويراف وأرياه العرش وثواب الصالحين وعقاب الظالمين أيضاً. وأخيراً أمسكني سروش المقدس والملاك آذر من يدي وحملاني من مكان إلى آخر، فرأيت رؤساء الملائكة أولئك، ورأيت باقي الملائكة».

ثم ذكر أن أرتاويراف شاهد الجنة وجهنم، وورد في فصل 101: «أخيراً أخذني سروش المقدس والملاك آذر من يدي وأخرجاني من ذلك المحل المظلم المخيف المرجف وحملاني إلى محل البهاء ذلك وإلى جمعية أورمزد ورؤساء الملائكة فرغبت في تقديم السلام أمام أورمزد، فأظهر لي التلطف. قال: يا أرتاويراف المقدس العبد الأمين، يا رسول عبدة أورمزد، اذهب إلى العالم المادي وتكلم بالحق للخلائق حسب ما رأيت وعرفت، لأني أنا الذي هو أورمزد موجود هنا. من يتكلم بالاستقامة والحق أنا أسمعه وأعرفه. تكلم أنت الحكماء. ولما قال أورمزد هكذا وقفت باهتاً لأني رأيت نوراً ولم أرَ جسماً، وسمعت صوتاً وعرفت أن هذا هو أورمزد».

فتتضح من هذا المشابهة العجيبة بين قصة معراج أرتاويراف الكاهن المجوسي وبين معراج محمد. ويوجد عند الزردشتية حكاية أخرى عن زردشت نفسه تقول إنه قبل ذلك الزمان بعدة أجيال عرج زردشت ذاته إلى السماء ثم استأذن لمشاهدة جهنم أيضاً، فرأى فيها «أهرمن» أي إبليس. ووردت هذه القصة بالتفصيل كتاب «زردشتنامه». ولم تتواتر أمثال هذه الخرافات بين الفرس فقط، بل تواترت بين الهنود عبدة الأصنام أيضاً، لأنه يوجد بلغة «سنسكرت» (لغة الهنود القديمة) كتاب يُدعى «إتَدرلوكاكمتم» (يعني السياحة إلى عالم إندره) قال فيه الهنود إن «إندره» هو إله الجو وذُكر فيه أن شخصاً اسمه «أرجنة» وصل إلى السماء وشاهد كل شيء فيها، وأن أرجنة نظر قصر إندره السماوي واسمه «وَيْونتي» وهو قصر في بستان يسمى «نَفْدَنَم». وورد في الكتب الهندية أن في ذلك المحل ينابيع أبدية تروي النباتات الخضراء النضرة الزاهية. وفي وسط ذلك البستان السماوي شجرة تسمى «بكشجتي» تثمر أثماراً تسمى «أمرته» (أي البقاء) فمن أكل من ثمرها لا يموت ولن يموت. وهذه الشجرة مزينة بالأزهار الزاهية ذات ألوان متنوعة رائعة. ومن استظل بظلالها الوارفة مُنح كل منية تمناها. ولا شك أن هذه الشجرة هي التي يسميها المسلمون «الطوبى».

ويعتقد الزردشتية بوجود شجرة عجيبة تُسمى بلغة أفِستا «حوابة» وتُسمى باللغة البهلوية «حوميا» (ومعناها مروية بماء رائق فائق). ووصف في كتاب «ونديداد» (فصل 5) «تأتي المياه في الصفاء من بحر يوئتكة إلى بحر ووؤركشة وإلى شجرة حوابة فتنبت هناك كلالنباتات على اختلاف أنواعها». ومن الواضح أن هذه الشجرة هي ذات «شجرة الطوبى» وهي مثل بكشجتي شجرة الهنود.

ولم ترد هذه الأشياء فقط في كتب الهنود والزردشتية، بل وردت أيضاً في بعض الكتب الكاذبة التي كانت متداولة عند أصحاب البدع والضلالات من المسيحيين في الأزمنة القديمة، ولا سيما كتاب «عهد إبرهيم» الذي تقدم ذكره وفي كتاب آخر يسمى «رؤيا بولس». فورد في كتاب «عهد إبراهيم» أن إبراهيم عرج بإرشاد أحد رؤساء الملائكة إلى السماء وشاهد كل ما فيها. وورد في كتاب «رؤيا بولس» أن بولس الرسول عرج كذلك، ولم نذكره اكتفاءً بما تقدم. وإنما نورد عبارة من «عهد إبراهيم» وهي «ونزل رئيس الملائكة ميخائيل وأخذ إبراهيم في عربة كروبية ورفعه في أثير السماء وأتى به وبستّين ملاكاً من الملائكة على السحاب، فساح إبراهيم على كل المسكونة في مركب» («عهد إبراهيم» صورة 1 فصل 10).

فهذا هو أصل فكرة «البراق» الذي ذُكر في الأحاديث الإسلامية. ولعل اشتقاق البراق من كلمة عبرية تسمى «باراق» ومعناها البرق. ويوجد ما يشبه ذلك في الكتاب الكاذب «كتاب أخنوخ» (فصل 14) فقد ورد فيه كلام على تلك الشجرة السماوية والأربعة الأنهر. وقال اليهود عن شجرة الحياة التي كانت في جنة عدن إن مسافة ارتفاعها 500 سنة (ترجوم يوناثان) ورووا أيضاً روايات أخرى عجيبة عنها. وبما أن المسلمين توهموا أن جنة عدن التي خُلق فيها آدم هي في السماء، وجب أن نبحث عن منشأ هذا الخطأ والوهم، فنقول إن مصدره الكتب الموضوعة ولا سيما «رؤيا بولس» (فصل 45). ولا نعرف إذا كان أصحاب البدع الذين اختلقوا هذه الكتب قد اتخذوا هذه الأشياء وغيرها من كتب الزردشتية والهنود أم لا. إلا أنه من المؤكد أن هذه القصص كاذبة ولا يصدقها عاقل، ولم يقبلها أحد من المسيحيين، سواء كان في الأزمنة القديمة أو الحديثة، بل نبذها الجميع، ولم يعتقد أحد منهم بأنها كُتبت بوحي وإلهام، بل أنها كُتبت لفئة صغيرة من الجهلة أصحاب البدع والضلالات، ولا توجد الآن إلا في مكتبات قليلة على سبيل الفكاهات، ولتبرهن على جهل وحماقة الفرق المبتدعة التي قبلت بعضها بدون برهان على صحتها. بل بالعكس، قبلتها رغم توفُّر الأدلة على بطلانها.

وإذا سأل سائل: إذا كانت خرافات معراج أرتاويراف وزردشت وإبراهيم وأرجنة هي بلا أصل ولا أساس في الواقع، وأن الواجب أن نرفضها، ألا يجب أيضاً عدم تصديق أن أخنوخ وإيليا والمسيح صعدوا إلى السموات؟

قلنا: لا يصعب على الذكي الرد على ذلك، فمن البديهي أنه لا يمكن وجود نقود زائفة ما لم توجد نقود صحيحة حقيقية متقدمة في الوجود عليها، فإن النقود الزائفة عُملت على منوال النقود الصحيحة لغش الجاهل. ولا يجوز لعاقل أن يرفض التعامل بجميع النقود لوجود نقود زائفة في بعض الأحيان. بل نقول إن وجود النقود الزائفة تدل دلالة واضحة على وجود نقود صحيحة. فكذلك يصدق القول على المعجزات، لأنه لولا وجود معجزات صحيحة ما ادَّعى أحدٌ بمعجزات كاذبة. ولو لم يوجد دين حقيقي صحيح ما وُجدت الأديان الكاذبة، ولو لم يشتهر صعود رجال بالحقيقة إلى السماء ما رأينا هذه الخرافات المختلفة بلغات شتى بين عقائد عديدة. والحكيم هو الذي يفحص النقود التي تُعرض عليه قبل قبولها، لأن الفحص يُظهر أن بينها فرقاً كبيراً. وهذا هو سبب اعتقاد المسيحيين اعتقاداً جازماً بصحة ما ورد في الكتب المقدسة من القصص عن صعود أخنوخ وإيليا والمسيح، ورفضهم القصص الأخرى التي ذكرناها. والفرق بين الصدق والكذب ظاهر كالصبح إذا طالعنا ما ورد في الكتاب المقدس عن صعود أخنوخ وإيليا والمسيح، وقارنا بين القصص البسيطة التي لها رنة النقود الحقيقية الصحيحة وبين القصص الكذابة التي تقدم ذكرها.

أما من جهة أخنوخ فقد ورد في سفر التكوين 5:24 «وسار أخنوخ مع الله ولم يوجد لأن الله أخذه». وأما عن إيليا فورد في 2ملوك 2:11 و12 «وفيما هما (أي أليشع وإيليا) يسيران ويتكلمان إذا مركبة من نار وخيل من نار ففصلت بينهما، فصعد إيليا في العاصفة إلى السماء. وكان أليشع يرى وهو يصرخ: يا أبي يا أبي، يا مركبة إسرائيل وفرسانها. ولم يره بعد». أما صعود المسيح فذُكر في أعمال الرسل 1:9-11 «ولما قال هذا (أي المسيح) ارتفع وهم ينظرون، وأخذته سحابة عن أعينهم. وفيما كانوا يشخصون إلى السماء وهو منطلق إذا رجلان قد وقفا بهم بلباس بيض وقالا: أيها الرجال الجليليون ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء؟ إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقاً إلى السماء». فهذه القصص الحقيقية سلمها لنا الذين شاهدوها بأعينهم، وهي منزهة عن الحكايات المطولة الوهمية الخرافية عما في السموات. ولا شك أن القصص الكاذبة تختلف اختلافاً بيناً عن القصص الحقيقية بحيث يسهل التمييز بين تواريخ الحوادث الواقعية الحقيقية وبين الحكايات الملفقة المختلفة التي يخترعها الناس لإرضاء الناس الذين يعجبون بمعرفة المجهولات التي سترها الله عن البشر.

قال الرسول بولس: «أعرف إنساناً في المسيح قبل أربع عشرة سنة، أفي الجسد؟ لست أعلم، أم خارج الجسد؟ لست أعلم. الله يعلم. اختُطف هذا إلى السماء الثالثة.. وسمع كلمات لا يُنطق بها، ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها» (2كورنثوس 12:2-4). وقد ورد في كتاب «رؤيا بولس» نبأ مطول عما رآه بولس وسمعه هناك. ومن هذا يظهر الفرق بين الحق والكذب. فالفرق بين الأناجيل الموضوعة والأناجيل الصادقة ظاهر للقارئ، كالفرق الموجود بين كتاب «ألف ليلة وليلة» و«كتاب الواقدي». فأحدهما يشتمل على خرافات فارغة، والآخر يشتمل على حوادث حقيقية حصلت فعلاً. وإذا سأل سائل: ما هو أصل الخرافات الواردة عن شجرة الطوبى أو سدرة المنتهي أو الأربعة الأنهار السماوية؟ قلنا: نشأت هذه الخرافات من القصة البسيطة الصحيحة الواردة في التكوين 2:8-17، فإنه لما كان الجهلة السذج الميالون إلى تصديق الخرافات لا يعرفون أن جنة عدن كانت بقرب بابل وبغداد، حوَّلوا بأوهامهم الجامحة وتصوراتهم الشاردة حق الله إلى أكاذيب بزياداتهم ومبالغاتهم، وغيَّروا الوقائع التاريخية والجغرافية إلى خرافات لا أصل لها.

(2) في أصل ما ذكر في القرآن والأحاديث بخصوص الجنة والحور والغلمان والجن وملك الموت وذرات الكائنات:

كل مسلم ملمّ بهذه الأمور يعرف ما ورد عنها في القرآن وفي الحديث، فلا لزوم أن نسرد كل تفاصيلها هنا. غير أن منتقدي القرآن قالوا إن مصدر كل هذه التعاليم هو كتب الزردشتية. ولا شك أن كل مطلع على التوارة والإنجيل يرى أنه لا يوجد أثر لها مطلقاً في التوراة أو الإنجيل. غاية الأمر أن الأنبياء والرسل أفادوا بوجود مكان راحة للمؤمنين الحقيقيين، سمّوه «حضن إبراهيم» أو «الجنة» أو «الفردوس». ولم يرد ذكرٌ للحور أو الغلمان في كتب الرسل أو الأنبياء، غير أنها ذُكرت في كتب الزردشتية والهنود. ومن الغريب أن ما ورد فيها يشابه مشابهة غريبة ما ورد في القرآن والحديث.

قال المسلمون عن الحور في سورة الرحمن 55:72 «حور مقصورات في الخيام» وفي سورة الواقعة 56:23 «وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون» وهو مأخوذ مما قاله الزردشتية القدماء عن بعض أرواح غادات اسمهن «بَيْركان» ويسميها الفرس المتأخرون «بَرْيان» لأن الزردشتية زعموا أن أرواح هذه الغادات سكنت في الهواء ولها علاقة تامة بالكواكب والنور. وكان جمال أرواح هاته الغادات رائعاً حتى خلبت قلوب الرجال. وقال بعض الذين لا يعرفون غير العربية إن كلمة «حور» هي في الأصل عربية مشتقة من «حار» ولكن الأرجح أنها مأخوذة من لغة أفِستا ومن البهلوية، وهما لغتان من لغات الفرس القديمة، لأنه ورد في لغة «أفِستا» كلمة حوري (بمعنى الشمس وضوء الشمس). ووردت في اللغة البهلوية «هور» وفي لغة الفرس الحديثة «ضور» (أي الشمس وضوؤها). ولما أدخل العرب كلمة «حور» في لغتهم وكانوا لا يعرفون مصدرها واشتقاقها توهموا أنها مأخوذة من فعل «حار» وظنوا أن سبب تسميتهن بالحور هو سواد أعينهن. ولم يرد ذكر هاته الغانيات السماويات في كتب قدماء الفرس فقط، لأنه يوجد في كتب قدماء الهنود بعض القصص بخصوص الأشخاص الذين يسميهم المسلمون «الحور» و«الغلمان» ويسميهم الهنود «أَبْسَرسس» و«كندهروس». وقال الهنود إن الذين يعاشرونهم في السماء هم الذين يظهرون البسالة في الحروب ويُقتَلون فيها، فإنهم كانوا يعتقدون في الأزمنة القديمة، كالمسلمين، أن كل من يُقتل في ساحة القتال جدير بالدخول إلى السماء. وقد ورد في كتاب «شرائع منوا» (فصل 5 بيت 89) «الملوك الذين تكافحوا في الحروب باختيارهم قتل بعضهم بعضاً ولا يصرفون وجوههم أخصامهم ذهبوا بعد إلى السماء.. لإقدامهم».

وكذلك ورد في كتاب «قصة نلة» قول الإله إندره للملك نله: «أما حراس الأرض العدول والمحاربون الذين تركوا أمل الحياة، الذاهبون في الوقت المعين إلى الهلاك بالسلاح بدون أن يصرفوا وجودهم أن لهم هذا العالم الباقي».

فيتضح من مثل هذه الأقوال أن قدماء عبدة الأصنام من الهنود توهموا، كما توهم المسلمون، أنه إذا قُتل إنسان في كفاح أو حرب استحق الدخول في السماء وفردوس النعيم وعاشر الحور والغلمان المقيمين فيها. وكان الإنكليز القدماء وجميع سكان شمال أوربا، أيام وثنيتهم يعتقدون أن الغادات السماويات (ويسمّونهن الكوريات، أي منتخبات المقتولين) كن يأتين إلى ميدان الحرب ويحملن إلى سماء إله الحرب أرواح الأبطال الذين قُتلوا في الكفاح.

ويعتقد المسلمون بوجود الجن. غير أن اشتقاق كلمة «جن» أو «جني» تدل على أَخْذها من لغة أجنبية، لأنه لو كانت هذه الكلمة عربية، وكانت مشتقة من الفعل «جن» لاقتضى أن يكون مفردها جنين، على قياس أن «قليل» مأخوذة من الفعل «قل». وقال البعض الآخر إن هذه الكلمة مشتقة من «جنة» ولكن يلزم أن يكون مفردها «جني» مع أن الأمر هو خلافه. ثم أنه لا علاقة للجن بالجنة، لأنه لا يجوز لهم الدخول فيها. والحقيقة هي أن الكلمة مشتقة من لغة الفرس القديمة، لأنها وردت في كتاب «أفِستا» (وهو كتاب الزردشتية المقدس ودستور ديانتهم) بهذه الصورة والصيغة، وهي «جيني» ومعناها روح شرير، فأخذ العرب الاسم والمسمى من الزردشتية.

ويتضح مما ذكرنا أعلاه عن الميزان أنه ورد في الأحاديث أنه لما عرج محمد إلى السماء، رأى أنه إذا نظر آدم إلى الأسودة إلى عن يمينه ضحك، وإذا نظر إلى التي عن يساره ناح وبكى. وقد ظهر لنا قبلاً أنه ورد لنا ذكر هذا الشيء ذاته في كتاب «عهد إبراهيم» أيضاً، وهو مصدر هذه الحكاية ومنشأها. غير أنه يوجد فرق بين القصتين، وهو أن الأرواح المذكورة في كتاب «عهد إبراهيم» هم أرواح الأموات، غير أن الأسودة المذكورة في الأحاديث هم أرواح أشخاص لم يولدوا بعد، ويسميهم المسلمون «الذرات الكائنات». ولا ينكر أن كلمة «ذرة» هي عربية، غير أن المسلمين اتخذوا الاعتقاد بوجود «الذرات الكائنات» من قدماء الزردشتية، لأن الزردشتية كانوا في قديم الزمان يعتقدون بمثل هذا الاعتقاد. وعبارة الأفِستا هو أن كل ذرة كائنة تسمى «فروشي» وتسمى باللغة البهلوية «فروهر» وقال البعض إنه يمكن أن الزردشتية اتخذوا هذا الاعتقاد من قدماء المصريين، ولكن العرب اقتبسوه من الزردشتية وأدخلوه في ديانتهم.

وقد اقتبس المسلمون من اليهود لقب «ملك الموت» لأن اليهود يطلقون عليه هذا اللقب بالعبري. ويتفق الفريقان على اسم هذا الملاك، ولا يوجد بشأنه سوى اختلاف زهيد بينهم. فاليهود يسمونه «سمائيل» والمسلمون يسمونه «عزازيل». غير أن كلمة «عزازيل» ليست عربية بل هي عبرية، ومعناها «نصرة الله». ولم يرد اسم هذا الملاك في التوراة والإنجيل. فيتضح أن اليهود اقتبسوا معلوماتهم عنه من مصدر آخر، والأرجح أن مصدر معلوماتهم هو «الأفِستا» التي ورد فيها أنه إذا وقع إنسان في الماء أو في النار أو في أي شيء من هذا القبيل فغرق أو احترق، فلا يكون سبب موته الماء أو النار، بل ملاك الموت، لأنهم زعموا أن عنصري الماء والنار صالحان ولا يؤذيان الناس. ويسمى ملاك الموت بلغة أفِستا «أستووِيدهوتُش». (انظر كتاب «ونديداد» (فصل 5 الأسطر 25-35).

 

(3) قصة خروج عزازيل من جهنم.

اتَّخذ المسلمون اسم عزازيل من اليهود، وتوجد هذه الكلمة في التوراة العبرية ( اللاويين 16:8 و10 و26). ولكنهم اتخذوا قصة خروجه من جهنم من الزردشتية، من كتاب بهلوي عنوانه: «بوندهشينة» (أي الخليقة). فورد في «قصص الأنبياء» (ص 9) «خلق الله عزازيل، فعبد عزازيل الله تعالى ألف سنة في سجن، ثم طلع إلى الأرض فكان يعبد الله تعالى في كل طبقة ألف سنة، إلى أن طلع على الأرض الدنيا». وورد في «عرائس المجالس» (ص 43) أن إبليس يعني عزازيل أقام ثلاثة آلاف سنة عند باب الجنة بالأمل أن يضر آدم وحواء لامتلاء قلبه بالحسد. وورد في «بوندهشينه» (فصل 1 و2) «أهرمن يعني إبليس كان ولا يزال في الظلام غير عالم بالأشياء إلا بعد وقوعها، وحريصاً على إيصال الضرر للآخرين وكان في القعر.. وذلك الميل للضرر وتلك الظلمة أيضاً هما محل يسمونه «المنطقة المظلمة». وكان أورمزد يعرف بعلمه التام بوجود أهرمن لأن أهرمن يهيج نفسه ويتداخل بالميل للحسد حتى الآخر.. وكان أورمزد وأهرمن مدة ثلاثة آلاف سنة بالروح، يعني كانا بدون تغيير ولا حركة.. فالروح الضار لم يعرف بوجود أورمزد لقصور معرفته. وأخيراً طلع من تلك الهاوية وأتى إلى المحل الباهي. ولما شاهد نور أورمزد ذلك اشتغل بالأضرار».

فالفرق بين الأحاديث وبين هذا القول ظاهر، لأنه ذكر في الأحاديث أن عزازيل كان يعبد الله قبل خروجه من سجن، ولكن الزردشتية قالوا إن أهرمن لم يدرِ بوجود أورمزد أولاً. ولكن توجد مشابهة أيضاً بين هاتين الروايتين، وهي أن عزازيل وأهرمن دخلا الوجود في سجن أو في الهاوية، وصعد كل منهما من هناك، وبذلا جهدهما في الإضرار بخلق الله.

وقبل ختام الكلام على عزازيل أو أهرمن لا بأس من إيراد البرهان على وجود علاقة بين هاتين القصتين، فنقول: يتضح من الأحاديث ومن كتب الزردشتية أن الطاووس وافق من بعض الوجوه عزازيل الذي هو أهرمن، لأنه ورد في «قصص الأنبياء» أنه لما جلس عزازيل أمام باب الجنة ورغب في الدخول فيها رأى الطاووس الذي كان جالساً على الجنة واحداً يتلو أسماء الله العظمى الحسنى. فسأله الطاووس: «من أنت؟» فقال له: «أنا أحد ملائكة الله». فسأله الطاووس: «لماذا أنت جالس هنا؟». فقال له عزازيل: «أنظر الجنة وأتمني الدخول فيها». فقال له الطاووس: «لم أومر بإدخال أحد إلى الجنة ما دام آدم عليه السلام فيها». فقال له: «إذا كنت تأذن لي بالدخول فيها أعلّمك صلاة من تلاها نال ثلاثة أشياء: أحدها أنه لا يكبر، وثانيها أنه لا يصير عاصياً، وثالثها أنه لا يطرد من الجنة». فأخبره إبليس بهذه الصلاة فتلاها الطاووس فطار من سور الجنة إلى الجنة ذاتها وأخبر الحية بما سمعه من إبليس. وذكر بعد هذا أنه لما أهبط الله آدم وحواء وإبليس من الجنة إلى الأرض طرد الطاووس معهم أيضاً.

أما قصة الطاووس في كتب الزردشتية فتختلف عن هذا، غير أنهم في قديم الأيام ظنوا أنه مساعد لأهرمن. فقد ورد في كتاب أرمني قديم يسمى «ردُّ البدع» (باب 2) تأليف يزنبق «عن الزردشتية في تلك الأعصر، قالوا إن أهرمن قال إنه ليس أني لا أقدر أن أعمل شيئاً من الخير، ولكني لا أريده. وخلق الطاووس لإثبات هذا الكلام». فإذا كان أهرمن أو عزازيل هو الذي خلق الطاووس فلا غرابة إذا كان هو الذي علمه وصار معينه وطرد معه من الجنة.

(4) نور محمد

ورد في «قصص الأنبياء» أن محمداً قال «أول ما خلق الله نوري» (ص 2 و282) وجاء في «روضة الأحباب» أن محمداً قال: «لما خُلق آدم وضع الله على جبهته ذلك النور، وقال: يا آدم، إن هذا النور وضعتُه على جبهتك هو نور ابنك الأفضل الأشرف، وهو نور رئيس الأنبياء الذي يُبعَث». ثم جاء أن ذلك النور انتقل من آدم إلى شيث ومن شيث إلى ذريته، وهكذا بالتعاقب إلى أن وصل إلى عبد الله بن عبد المطلب، ومنه إلى آمنة لما حبلت بمحمد. وورد أيضاً في الأحاديث أن محمداً قال إن الله قسم النور إلى أربعة أقسام، وخلق العرش من قسم من هذه الأقسام، وخلق القلم من قسم وخلق الجنة من قسم وخلق المؤمنين من قسم، ثم قسم هذه إلى أربعة أقسام أخرى، فمن أفضل وأشرف القسم الأول خلقني أنا الرسول، ومن القسم الثاني خلق العقل وجعله في رأس المؤمنين، ومن القسم الثالث خلق الحياء وجعله في أعين المؤمنين، ومن القسم الرابع خلق العشق وجعله في قلوب المؤمنين (قصص الأنبياء ص 2).

فإذا بحثنا عن مصدر هذه القصة وجدناها أيضاً في كتب الزردشتية، لأنه ورد في كتاب فارسي قديم يُدعى «مينوخرد» كُتب باللغة البهلوية أيام الفرس الساسانية أن الخالق «أورمزد» خلق هذه الدنيا وجميع خلائقه ورؤساء الملائكة والعقل السماوي من نوره الخصوصي مع تسبيح الزمان غير المتناهي. وذُكر هذا النور في كتاب أقدم من المينوخرد، هو «يشت 29» بخصوص «يمه خشائته» المسمى الآن «جمشيد»:

«كان البهاء الملكي العظيم ملازماً لجمشيد صاحب القطيع الصالح مدة طويلة، بينما كان متسلطاً على سبعة أقاليم الأرض: على الجن والأنس والسحرة والجنيات والأرواح الشريرة والعرافين والكهنة.. ثم لما خطرت بباله تلك الكلمة الكاذبة الساقطة زال منه البهاء الظاهر بصورة طير.. وهو «جمشيد» صاحب القطيع الصالح، لما لم يرَ بعد ذلك البهاء، تحسر جم، ولما اضطرب عمل على إحداث العداوة على الأرض. وأول ما زال ذلك البهاء زال من جمشيد، وزال ذلك البهاء من جم ابن الشمس بصورة طير وراغ (1).. فأخذ «مثره ذلك البهاء. ولما زال البهاء ثانيةً من جمشيد زال ذلك البهاء من جم ابن الشمس، وفارقه بصورة طير وراغ، فأخذ فريدون ابن القبيلة الآثويانية ابن القبيلة المشهورة بالبسالة ذلك البهاء، لأن فريدون كان أعظم مَن فاز بين الفائزين. ولما زال البهاء من جمشيد ثالثةً زال ذلك البهاء من جم ابن الشمس بصورة طير وراغ، فأخذ البطل كرساسبه ذلك البهاء لأنه كان أقوى من الأقوياء».

فإذا قارنا بين هاتين القصتين رأينا أن «جمشيد» كان حائزاً على هذا النور العجيب مدة من الزمن. وبحسب تعاليم أفِستا كان جمشيد أول رجل خلقه الله على الأرض، ويقصدون بهذا آدم أبو البشر. ولما سقط جمشيد في الخطية واقترف الزلل، انتقل ذلك النور من واحد إلى آخر من أفضل أولاده بالتتابع، وهذا يوافق ما ذُكر في الأحاديث بخصوص نور محمد. فيتضح أن خرافة الفرس هذه هي مصدر ما رووه عن نور محمد. ولا شك أن المسلمين اتَّخذوا هذه القصة من الزردشتية، فقد ورد في كتاب الزردشتية القديم أن الملك العظيم جمشيد تسلط على الناس والجن والأرواح الشريرة. فلابد أن اليهود اتخذوا من هذه الرواية ما نسبوه إلى الملك سليمان من القوة والسلطة على الناس والجن.. إلخ.

واتخذ المسلمون من اليهود هذا الاعتقاد (كما رأينا في الفصل الثالث من هذا الكتاب). وما قاله المسلمون عن تقسيم نور محمد إلى أقسام ورد بالتفصيل، مع اختلاف بسيط، في كتاب فارسي قديم عنوانه «دساتير آسماني» (أي الأساطير السماوية) في الباب الوارد بخصوص زردشت. فنرى من ذلك أيضاً أن تفاصيل نور محمد مأخوذة من كتب الزردشتية.

 

(5) الكلام على الصراط:

قال المسلمون إن محمداً قال إنه بعد دينونة يوم الدين الأخيرة يُؤمر جميع الناس بالمرور على الصراط، وهو شيء ممدود على متن جهنم بين الأرض والجنة. وقالوا إن الصراط هو أدق من الشعرة وأحدُّ من السيف، فيقع منه الكفار ويهلكون في النار. فمن أراد معرفة منشأ هذا القول وجب عليه أولاً أن ينظر في اشتقاق كلمة «صراط» لأن أصلها ليس من اللغة العربية، فلابد أنها اتُّخذت من لغة أخرى، لأن «صراط» معربة من أصل فارسي. والزردشتيون يسمّون «الصراط» «جينود». وبما أنه لا يوجد حرف ج في الأبجدية العربية، استُعمل بدلاً عنه حرف ص، فكل كلمة أعجمية تكون تبدأ بحرف ج ويُراد تعريبها، يُبدل حرف ج إلى ص. مثلاً جين تصير صين. وعلى هذا القياس تكون كلمة صراط معربة عن «جينود». ولم يتخذ المسلمون من قدماء الزردشتية كلمة صراط فقط، بل اتخذوا عنهم هذا الاعتقاد كله، كما يظهر من مجرد التأمل في العبارة الآتية المأخوذة من كتاب بهلوي يسمى «دينكرت» (جزء 2 فصل 81 في قسمي 5 و6) ونصه: «أهرب من الخطايا الكثيرة. أحافظ على نقاوة وطهارة سلوكي بحفظ طهارة قوى الحياة الست، وهي الفعل والقول والفكر والذهن والعقل والفهم حسب إرادتك يا مسبِّب الأعمال الصالحة العظيم. وإني أؤدي عبادتك بعدالة بحسن الفكر والقول والعمل، لأستمر في الطريق الباهية، لكي لا أعاقب بعقاب جهنم الصارم، بل أعبر على جينود، وأصل إلى ذلك المسكن المبارك المملوء من العطريات والمسر بأجمعه والباهر دائماً».

وتعني كلمة «صراط» في الأصل «الجسر الممدود» فقط، إلا أنهم توسعوا في معنى هذه الكلمة بعد ذلك، فصارت تفيد الطريق، كما وردت بهذا المعنى في سورة الفاتحة. ومعنى الصراط الحقيقي (الذي لا يمكن أن يُستفاد من العربية) واضح إذا اطلعنا على اللغة الفارسية القديمة، لأنها مشتقة من كلمتين فارسيتين قديمتين معنى إحداهما الاتحاد ومعنى الثانية معبر، فيفيد جمع هاتين الكلمتين «القنطرة» التي قال الزردشتية إنها توصِّل الأرض بالجنة (2).

 

(6) في ذكر قضايا قليلة مهمة:

لما كان ذكر جميع الأشياء التي اتَّخذها المسلمون من الزردشتية بالتفصيل الوافي لا يخلو من التطويل الممل، اكتفينا بذكر ثلاث أو أربع قضايا أخرى من هذا القبيل طلباً للاختصار:

أحدها أن المسلمين قالوا إن كل نبي شهد قبل موته للنبي الذي يأتي بعده فقالوا مثلاً إن إبراهيم شهد لموسى، وشهد موسى لداود، وهلم جراً. ولكن كل من طالع كتب الأنبياء وجد الأمر خلاف ذلك، فجميع الأنبياء من أولهم إلى آخرهم شهدوا للمسيح وحده لا غير. وبما أن المسلمين لم يتَّخذوا ما ذهبوا إليه من التوراة والإنجيل، وجب أن نبحث عن مصدر هذا الرأي، وهو كتاب من الكتب الزردشتية يُسمى «دساتير آسماني» (أي الأساطير السماوية). وهو من الكتب الحديثة، لأن مؤلف «دبستان مذاهب» ومؤلف «البرهان القاطع» ذكرا هذا الكتاب. وقالت الزردشتية كذباً وبهتاناً أنه مكتوب بلغة السماء، وتُرجم إلى اللغة الدارية في عصر خسرويرونز، أحد قدماء ملوك الفرس. ولا يزال هذا الكتاب موجوداً باللغة الأصلية وبالكيفية المترجم إليها، وطبع في بومباي منذ سنين عديدة. وقال ملا فيروز (الذي طبع هذا الكتاب) إنه يشتمل على خمس عشرة رسالة نزلت على خمسة عشر نبياً، أولهم مهاباد وآخرهم ساسان الخامس، ومنهم زردشت الثالث عشر. وفي آخر كل رسالة من هذه الخمس عشرة رسالة ذكر النبي الذي كان ينبغي أن يأتي بعدئذ في الوقت المعين. ولا شك أن هذا الكتاب هو من الكتب الموضوعة الكاذبة، مع أنه كان مؤلفاً في الأصل باللغة البهلوية قبل أن يُترجم إلى اللغة الدارية. وبناء على ذلك فهو كتاب قديم. والظاهر أن قول الفُرس إن كل نبي تنبأ عن مجيء خلَفه وقع موقعاً حسناً عند المسلمين، فاتَّخذوه من كتاب الزردشتية هذا. وثاني فقرة من كل رسالة من هذه الرسائل هي: «باسم المعطي الغافر الرحمن العادل». فكل إنسان يرى أن هذه الكلمات توافق من بعض الوجوه البسملة التي افتُتحت بها المائة والثلاث عشرة سورة من سور القرآن البالغة 114 وهي «باسم الله الرحمن الرحيم» فالكلمات الأولى البوندهشنية تشبهها أيضاً، ونصها «باسم أورمزد الصانع». وكان قدماء الزردشتية يؤدون الصلاة خمس مرات كل يوم، فيوجد اتفاق بين الزردشتية وبين الصابئين في هذا الأمر. ورأينا أن الصلوات الخمس المفروضة على المسلمين تطابق خمساً من الصلوات السبع المفروضة على الصابئين.

 

(7) ختام الكلام:

وإذا قال قائل لا يصح أن محمداً استحسن استحساناً تاماً قصص الزردشتية وفروضهم حتى أدرجها في القرآن والأحاديث، لأنه لا يُتصوَّر أن هذا النبي الأمي يعرف كل هذه الأشياء. قلنا إن المعترضين ردوا على هذا بثلاثة أفكار:

أولاً: ورد في «روضة الأحباب» أن محمداً اعتاد محادثة ومسامرة ومحاورة كل من يقصدونه على اختلاف مللهم ونحلهم، وكان يخاطبهم بألفاظ قليلة من لغتهم. وبما أنه كان كثيراً ما يتكلم بالفارسية تداولت بعض الألفاظ الفارسية في اللغة العربية.

ثانياً: إذا ثبت مما تقدم أن محمداً استحسن خرافات اليهود وروايات العرب الوثنيين عبدة الأصنام وفروضهم حتى أدرجها في القرآن، فما الفرق بين هذا وبين استحسانه لقصص الفُرس؟ أما القصص الكثيرة الواردة في القرآن فكانت متواترة بين العرب تواتراً عظيماً حتى قال الكندي عنها: «فإن ذكرتَ قصة عاد وثمود والناقة وأصحاب الفيل ونظائر هذه القصص، قلنا لك: هذه أخبار باردة وخرافات عجائز الحي اللواتي كنَّ يدرسنها ليلهن ونهارهن».

ثالثاً: جاء في «السيرة» لابن هشام وابن إسحق أنه كان من صحابة محمد شخص فارسي اسمه سلمان، وهو الذي أشار على محمد وقت حصار المدينة بحفر الخندق فتبع نصيحته. وكان سلمان الفارسي أول من أشار على محمد باستعمال المنجنيق في غزوة ثقيف الطائف. وأكد أعداء محمد في عصره أن سلمان هذا ساعد محمداً على تأليف القرآن، فقد قيل: «ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر. لسان الذين يلحدون إليه أعجمي، وهذا لسان عربي مبين» (سورة النحل 16:103). فإذا قال المعارضون الأولون لمحمد إن هذا العجمي أو الفارسي المسلم كان سبب حُسن تأليف القرآن وفصاحة عباراته، فهذا الجواب يكفي لدحض أقوالهم.

ولكن بما أنه ثبت أن كثيراً مما ورد في القرآن وفي الأحاديث يطابق مطابقة غريبة ما ورد في كتب الزردشتية، فهذه الآية القرآنية لا تكفي لدحض الاعتراض الذي تبرهن الآن ببراهين قوية. بل نقول إن هذه الآية التي أوردناها تدل على أنه كان قد اشتهر في عصر محمد أن سلمان الفارسي ساعد محمداً على التأليف وأفاده بحقائق كثيرة. وعليه فنحن مُلزَمون أن نسلم أن كتب الزردشتية كانت مصدراً من المصادر التي اتَّخذت الديانة الإسلامية بعضها.

هوامش:

(1) الأرجح أن معنى كلمة «وراغ» هو «مضيء» وهو يشبه كلمة براق أو برق.

(2) وُجد ما يشبه هذا المعنى بين أسلاف سكان شمال أوربا، كما يستدل من تسميتهم جسر أو قنطرة الإله بقوس قزح. وبما أنهم أتوا بهذا المعنى من آسيا لما أتوا إلى أوربا واستعمروها، فيتضح أن هذا المذهب قديم جداً.

 

الفصل السادس

تأثيرات الحُنفاء على الإسلام

قبل ظهور محمد وادعائه النبوة سئمت نفوس بعض العرب من عبادة الأصنام، فأخذوا يبحثون عن الدين الحقيقي. ولما عرفوا من اليهود، وربما بعض أخبار وصلت إليهم بالتقاليد والتواتر من الأزمنة القديمة أن إبراهيم كان يعتقد بوجود الله الحي الحقيقي الوحيد، أخذ بعض العرب المقيمين في مكة والمدينة والطائف في البحث لمعرفة دين خليل الله، ونبذوا عبادة الأصنام. فكانوا يسمون الذين وجَّهوا أنظارهم وأفكارهم إلى هذه القضية المهمة «الحُنفاء» ومن هؤلاء أبو أمير وأصحابه في المدينة، وأمية بن زلط في الطائف، وأربعة من سكان مكة، هم: ورقة وعبيد الله وعثمان وزيد. فقال المعترضون إن آراء هؤلاء الحنفاء وقدوتهم ومثالهم ومحادثتهم مع محمد، ولا سيما زيد بن عمرو أثَّر في أفكار محمد تأثيراً عظيماً وأثَّر في ديانته. واستدلوا على تأييد أقوالهم بما ورد في القرآن ذاته. ولكي يتأكد مطالعو كتابنا هذا من صحة هذا القول أو خطئه يجب عليهم أن يطالعوا ما قاله ابن إسحق وابن هشام بخصوص حُنفاء مكة. ومع أن كثيرين ألفوا كتباً في سيرة محمد، إلا أن كتاب السيرة لابن هشام هو أجدر هذه الكتب بالاعتماد، لأنه أقدمها وأقربها إلى عصر محمد. وأول من جمع أو قال محمد وأفعاله هو الزهري، الذي تُوفي سنة 124 هـ، فنقل أخباره من التواتر الذي أخذه عن الصحابة ولا سيما من «عروة» أحد أقرباء عائشة. ولا شك أنه مع مرور سنين عديدة عبث به العابثون فدخلت في أخبارهم الأغلاط والمبالغات. ولو كان كتاب الزهري موجوداً اليوم لأفاد المحقِّقين الذين يودّون معرفة حقائق الأمور بخصوص محمد، لأن هذا الكتاب هو أقدم من غيره، فيكون جديراً بالاعتماد أكثر من أي كتاب آخر كُتب عن سيرة محمد. ومع أن كتاب الزهري ضاع ولم يبق له أثر، إلا أن ابن إسحق (الذي تُوفي سنة 151 هـ) كان أحد تلاميذ الزهري. فابن إسحق ألف كتاباً آخر في هذا الصدد، ونقل ابن هشام (الذي توفي سنة 213 هـ) في كتابه المسمى «سيرة الرسول» أجزاء كثيرة منه. فاعتمادنا إذاً في نقل أخبار الحُنفاء هو على كتاب «السيرة» لابن هشام، وقد ورد فيه:

«قال ابن إسحاق: واجتمعت قريش يوماً في عيدٍ لهم عند صنم من أصنامهم كانوا يعظّمونه وينحرون له ويعكفون عنده ويديرون به. وكان ذلك عيداً لهم، في كل سنة يوماً. فخلص منهم أربعةُ نفرٍ نجياً. ثم قال بعضهم لبعضٍ: تصادقوا، وليكتم بعضكم على بعض. قالوا: أجَل. وهم: ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العُزّى بن قصي بن كلاب بن مِرّة بن كعب بن لؤي؛ وعبيد الله بن جحش بن رئاب بن عامر بن صيرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة، وكانت أمُّه أميمة بنت عبد المطلب؛ وعثمان بن الحويرث بن عبد العزى بن قصي؛ وزيد بن عمرو بن نُفيل بن عبد العُزى بن عبد الله بن قرط بن رياح بن رزاح بن عُدي بن كعب بن لؤي. فقال بعضهم لبعض: «تعلموا واللهِ ما قومكم على شيء. لقد أخطأوا دين أبيهم إبراهيم. ما حجر نطيِّف به، لا يسمع ولا يبصر ولا يضرُّ ولا ينفع؟ يا قوم، التمسوا لأنفسكم فإنكم واللهِ ما أنتم على شيء». فتفرَّقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم. فأما ورقة بن نوفل فاستحكم في النصرانية واتَّبع الكتب من أهلها حتى علم علماً من أهل الكتاب. وأما عبيد الله بن جحش فأقام على ما هو عليه من الالتباس حتى أسلم ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان مسلمة. فلما قَدِمَها تنصَّر وفارق الإسلام حتى هلك هنالك نصرانياً. قال ابن إسحق: فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، قال: كان عبيد الله بن جحش حين تنصَّر يمر بأصحاب رسول الله، وهم هنالك من أرض الحبشة، فيقول: «فقحنا وصأصأتم» (أي أبصرنا وأنتم تلتمسون البصر ولم تبصروا بعد، لأن الكلب الوليد إذا أراد أن يفتح عينيه لينظر صأصأ لينظر. وقوله فقح عينيه تعني فتح عينيه). قال ابن إسحق: «وخلف رسول الله بعده على امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب» (أي تزوج بها بعده). قال ابن إسحق: وحدثني محمد بن علي بن حسين أن رسول الله بعث فيها إلى النجاشي عمرو بن الضمري فخطبها عليه النجاشي فزوَّجه إياها، وأصدقها عن الرسول أربعمائة دينار، فقال محمد بن علي عبد الملك بن مروان «وقف صداق النساء على أربعمائة دينار، إلا عن ذلك». وكان الذي أملكها للنبي خالد بن سعيد بن العاص. قال ابن إسحق: «وأما عثمان بن الحويرث فقدم على قيصر ملك الروم فتنصَّر وحسُنت منزلته عنده». قال ابن هشام: «ولعثمان بن الحويرث عند قيصر حديث يمنعني من ذكره ما ذكرت في حديث الفجار». قال ابن إسحق: «وأما زيد بن عمرو بن نفيل فوقف فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية. وفارق دين قومه فاعتزل الأوثان والميتة والدم والذبائح التي تُذبح على الأوثان، ونهى عن قتل الموؤودة، وقال: أعبد رب إبراهيم. وبادى قومه بعيب ما هم عليه». قال ابن إسحق: «وحدثني هشام بن عروة عن أبيه عن أمه أسماء بنت أبي بكر (رضي الله عنهما) قالت: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل شيخاً كبيراً مسنداً ظهره إلى الكعبة وهو يقول: يا معشر قريش، والذي نفس زيد بن عمرو بيده ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري. ثم يقول: اللهم لو أني أعلم أي الوجوه أحب إليك لعَبَدْتُك به، ولكني لا أعلمه. ثم يسجد على راحته». قال ابن إسحق: «وحدثت أن ابنة سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وعمر بن الخطاب وهو ابن عمه قالا لرسول الله: «استغفِر لزيد بن عمرو» قال: «نعم، فإنه يُبعث أمة وحده».

قال زيد بن عمرو بن نفيل في فراق دين قومه، وما كان لقي منهم في ذلك:

أرباً واحداً أم ألف رب أدين إذا تقسمت الأمور

عزلت اللات والعزى جميعاً كذلك يفعل الجلد الصبور

فلا عزى أدين ولا ابنتيها ولا صنمَي بني عمرو أزور

ولا غنماً أدين وكان رباً لنا في الدهر إذ حلمي يسير

عجبت وفي الليالي معجبات وفي الأيام يعرفها البصير

بأن الله قد أفنى رجالاً كثيراً كان شأنهم الفجور

وأبقى آخرين بسير قوم فيربل منهم الطفل الصغير

وبينا المرء يعثر ثاب يوماً كما يتروح الغصن المطير

ولكن أعبد الرحمن ربي ليغفر ذنبي الرب الغفور

فتقوى الله ربكم احفظوها متى لا تحفظوها لا تبور

ترى الأبرار دارهم جنان وللكفار حامية سعير

وخزي في الحياة وإن يموتوا يلاقوا ما تضيق به الصدور

(الجزء الأول من «سيرة الرسول» صفحة 76 و77)

فأفادنا ابن هشام أن خطاباً (عمّ زيد) طرده من مكة وألزمه أن يقيم على جبل حراء أمام تلك المدينة، ولم يأذن له بالدخول إلى مكة «سيرة الرسول» (جزء 1 ص 79).

وكذلك نستفيد من هذا الكتاب أن محمداً كان معتاداً أن يقيم في غار جبل حراء في صيف كل سنة للتحنُّث حسب عادة العرب. فالأرجح أنه كان يجتمع بزيد بن عمرو، لأنه أحد أقربائه. وأقوال ابن إسحق تؤيد هذا القول، لأنه قال إنه لما كان محمد في ذات هذا الغار «جاءه جبريل بما جاءه من كرامة الله وهو بحراء في شهر رمضان.. كان رسول الله يجاور في حراء من كل سنة شهراً، وكان ذلك مما تحنث به قريش في الجاهلية والتحنث التبرر.. قال ابن هشام تقول العرب التحنث والتحنف يريدون الحنيفية فيبدلون الفاء من الثاء» (جزء 1 ص 80 و81).

فكل من له اطلاع على القرآن والأحاديث يرى مما تقدم أن آراء زيد بن عمرو أثرت تأثيراً مهماً جداً في تعاليم محمد، لأن كل آراء زيد نجدها في ديانة محمد أيضاً. وهذه الآراء هي:

(1) منع الوأد (2) رفض عبادة الأصنام (3) الإقرار بوحدانية الله (4) الوعد بالجنان (5) الوعيد بالعقاب في سعير وجهنم. (6) اختصاص الله سبحانه بأسماء: الرحمن. الرب. الغفور. وقد قال محمد ما قال زيد بن عمرو، لأن زيداً وكل واحد من الحنفاء قال إنهم يبحثون عن «دين إبرهيم» غير أن زيداً قال إنه أدرك غايته، وهي أنه وجد هذا الدين، وأن محمداً قال إن غايته هي دعوة الناس إلى دين إبراهيم بواسطته. وكثيراً ما أطلق القرآن على إبراهيم أنه حنيف مثل زيد وأصحابه، وإن كان إطلاقه هذا اللقب في القرآن على إبراهيم يفيد ذلك بطريق الالتزام. ولتأييد هذا نورد من القرآن بعض آيات قليلة، فورد في سورة النساء 4:125 «ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفاً، واتخذ الله إبراهيم خليلاً» وورد في سورة آل عمران 3:95 «قل صدَق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين» وورد في سورة الأنعام 6:161 «قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً». فكل من له إلمام بتراكيب اللغة العربية وقواعدها يرى أنه مع أن القرآن لم يطلق على إبراهيم أنه «حنيف» إلا أنه أطلق عليه ضمناً أنه كان حنيفاً، وحض القرآن أصحاب محمد على قبول ملة إبراهيم، لأن من قبل ملة إبراهيم كان من عداد الحنفاء. وأصل كلمة «حنيف» في اللغة العبرية والسريانية تعني «نجس أو مرتد» لأن عبَدة الأصنام من العرب أطلقوا على زيد وأصحابه لقب «الحنفاء» ليصفوهم بالارتداد، لأنهم تركوا ديانة أسلافهم عبدَة الأصنام. فاستحسن محمد والعرب الحنفاء أن يختصوا بهذا اللقب، وفسَّروا هذه اللقب تفسيراً حسناً وصبغوه بمعنى مناسب. ولعلهم فعلوا ذلك لأنهم لم يروا فرقاً بين التحنُّف والتحنُّث. ولا ننسى أن هؤلاء الأشخاص الأربعة الذين دُعوا حنفاء كانوا من أقرباء محمد لأنهم تناسلوا جميعهم من لؤي. كما أن عبيد الله كان ابن خالة محمد، وتزوج محمد أم حبيبة أرملة عبيد الله. وذكر ابن هشام أن ورقة وعثمان ابني عم خديجة كانا من الحنفاء، فمن المستحيل أن آراء زيد وغيره من الحنفاء ومذاهبهم وأقوالهم وتعاليمهم لا تُحدِث في أفكار محمد أثراً مهماً جداً. ومع أنه لم يؤذن لمحمد (حسب الحديث الذي ذكره البيضاوي في تفسيره على سورة التوبة 9:113) أن يستغفر لآمنة والدته، إلا أنه استغفر لزيد بن عمرو، فقال إنه سيُبعث أمة وحده في يوم القيامة، وهذا تصديقُ محمد لمبادئ زيد بن عمرو.

وقد يتصدى إنسان للرد على ما ذكرتُه في هذا الفصل وفي غيره من فصول هذا الكتاب السابقة قائلاً: إذا فرضنا أن مصادر الإسلام التي أوردها المعترضون هي المصادر الحقيقية له، فلا يكون لمحمد أثرٌ في كل ديانته، وهذا غير ممكن. قلنا في الرد على ذلك: إن المعترضين على الإسلام يقولون إنه لما شرع محمد في إيجاد دينه فلا بد أن تظهر ميوله وصفاته في هذا الدين، لأن البنّاء أو المهندس إذا بنى بيتاً من حجارة متنوّعة من اللَّبِن وقوالب الأجُرّ فلا بد أن تظهر كفاءته في تنظيم هذه المواد بأن يجعلها في ترتيب محكم، ولا بد من ظهور غاياته ومهاراته في البناء الذي يشيِّده. فهكذا يُقال في الديانة الإسلامية.. لقد تشكلت بشكل يختلف عن سائر الأديان من وجوه كثيرة. فنقول بناءً على هذا إن باني أو مهندس هذا البناء كان عاقلاً مقتدراً. ويستدل على فصاحة محمد من فصاحة عبارات القرآن. وبصرف النظر عن كل هذا ففي القرآن آثار وقرائن تدل على الحوادث والوقائع التي حصلت في تاريخ محمد. مثلاً كان محمد قبل الهجرة بلا سطوة دنيوية، فلا ترى في الآيات التي كتبها قبل الهجرة ذكراً للجهاد لنشر دعوته وتعميم ديانته. ولكن بعد الهجرة لما صار سكان المدينة من أنصاره أذِن أولاً لأصحابه بالكفاح والحرب للدفاع عن أنفسهم، فورد في سورة الحج 22:39 و40 «أذِن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا.. الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله». وقال ابن هشام في سيرة الرسول (جزء 1 ص 164) عن عروة وغيره من أصحاب محمد أن الإذن بالحرب أولاً في هاتين الآيتين. وثانياً: لما انتصر محمد وصحابته في جملة غزوات تغيَّر هذا الإذن إلى فرض وأمر واجب، فورد في سورة البقرة 2:216 و217 «كُتب عليكم القتال وهو كره لكم.. يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل» ومعنى هاتين الآيتين أن الواجب على المسلمين أن يكافحوا ويلزموا قريشاً على عدم التعرض لهم ومنعهم عن السفر إلى الكعبة. وثالثاً: لما هزم المسلمون في السنة السادسة من الهجرة بني قريظة وبعض طوائف اليهود الأخرى، شدَّد في الحض على الجهاد، كما ذكر في سورة المائدة 5:33 «إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم». قال المفسرون إن هذا الأمر يختص بما يجب معاملة عبَدة الأصنام به، ولا دخل له في معاملة اليهود أو النصارى. ولكن بعد هذا بعدة سنين وُضعت القوانين التي يجب على المسلمين مراعاتها نحو أهل الكتاب، وذلك في السنة الحادية عشرة بعد الهجرة، قبيل وفاة محمد. ورابعاً: فُرض على المسلمين في سورة التوبة 9:5 و29 (وهي آخر سورة نزلت) أن يبدأوا بالحرب بعد الأربعة الأشهر الحرام «فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد. فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم .. قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون».

وتدفعنا قواعد القرآن الست أن نقول إن إرادة الله الحكيم المنزه عن التغيير تغيَّرت بالنسبة إلى فوز محمد وانتصار أصحابه في الحروب وفي تقدُّمهم بالتدريج المكلل بالانتصار. ويظهر ذلك بجلاء فيما قرره فقهاء الإسلام أن بعض آيات القرآن منسوخة وبعضها ناسخة، فجاء في سورة البقرة 2:106 «ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها. ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير». وسبب ذلك أن محمداً كان يرجو أنه إذا خلط أديان اليهود والمسيحيين وبعض فروض دينية عند العرب تيسَّر له أن يؤلف ديناً يدين به جميع سكان جزيرة العرب، فيصبحون أمة واحدة. فبذل غاية جهده ليجذب إليه هذه الطوائف المختلفة كلها وهذه الملل المتنوعة المتفرقة «ويجمعهم إلى أمة واحدة» من أتباعه. ولكنه لما فشل هذا المسعى عزم على استئصال اليهود والمسيحيين لقطع دابرهم أو نفيهم من بلاد العرب، كما هو واضح من منطوق القرآن.

ويظهر زيادة على ذلك مما ورد في سورة الأحزاب 33:37 و38 بخصوص زينب امرأة ابنه بالتبنّي زيد أن صفات محمد وأطواره أحدثت أثراً مهماً جداً في القرآن، وهذا واضح مما ورد في القرآن والأحاديث بخصوص تعدد الزوجات.

ولا شك أن مجموع المواضيع والمطالب والتعاليم المدونة في القرآن والأحاديث هي مثل أنواع وأقسام مياه آتية من أنحاء شتى ومن ينابيع متفرقة فتجمعت إلى بحيرة. غير أن الإناء الذي أكسب هذه المياه المتجمِّعة شكلها وهيئتها هو عقل محمد ونفسه وسجيته وطبيعته.

ولا ينكر أن كثيراً من التعاليم الواردة في القرآن، ولا سيما التعاليم المختصة بوحدانية الله القدوس، مفيدة ونافعة. ولا ننكر وجود بعض الصدق والفائدة في الأقوال المختصة بالميزان والجنة وشجرة الطوبى. ولكن من أراد أن يشرب ماءً رائقاً نقياً لا ينبغي له أن يرد مورد الماء المعكر، بل عليه أن يرد ينبوع نهر ماء الحياة الذي كثيراً ما يشهد له القرآن نفسه. وهذا الينبوع هو كتب الأنبياء والحواريين التي قال عنها القرآن: «إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور.. وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور، ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين» (المائدة 5:43-48). فشهادة القرآن هذه للكتاب المقدس (أي التوراة والإنجيل) تغافل عنها المسلمون ونبذوها في زوايا النسيان أو أهملوها وأوَّلوها وصرفوها عن أذهانهم، ولكنها أهم أركان تعاليم القرآن. وزد على هذا أن محمداً حضَّ أتباعه على التمسك بدين إبراهيم خليل الله. ومن أراد معرفة دين إبراهيم وجب عليه أن يستقصي توراة موسى، فيرى فيها أن الله وعد إبراهيم أن يجيء المسيح من نسله ومن نسل إسحق ابنه، وهو المخلِّص الوحيد. وقد اعتمد إبراهيم على هذا الوعد وآمن بالمخلِّص الموعود فنال خلاصاً، ودُعي خليل الله (رسالة يعقوب 2:23). ولتأييد صدق كلامنا نورد بعض آيات من الكتاب المقدس: ورد في شريعة موسى في سفر التكوين 17:18-21 أنه قبْلَ مولد إسحق كان إبراهيم قد شاخ، وطلب من الله أن يقبل إسماعيل وارثاً للوعد قائلاً: «ليت إسماعيل يعيش أمامك» فرفض الله هذا الطلب، وإن كان قد وعد بأن يبارك إسماعيل بالرخاء الدنيوي، وقال لإبراهيم: «بل سارة امرأتك تلد لك ابناً وتدعو اسمه إسحق، وأقيم عهدي معه عهداً أبدياً لنسله من بعده. وأما إسمعيل فقد سمعت لك فيه. ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيراً جداً. إثنا عشر رئيساً يلد، وأجعله أمة كبيرة. ولكن عهدي أقيمه مع إسحق الذي تلده لك سارة في مثل هذا الوقت في السنة الآتية». (أما الاثنا عشر رئيساً فنجد أسماءهم في سفر التكوين 25:13-16). وقال الله لإبراهيم ثانية: «يتبارك في نسلك جميع أمم الأرض من أجل أنك سمعت لقولي» (تكوين 22:18) (يعني لأنك رضيت أن تقدم ابنك إسحق ذبيحة لله). وقال المسيح لليهود مشيراً إلى هذا الوعد وإلى اعتماد إبراهيم عليه: «أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي فرأى وفرح» (يوحنا 8:56). وقال بولس الرسول بالوحي الإلهي: «وأما المواعيد فقيلت في إبراهيم وفي نسله. لا يقول: وفي الأنسال كأنه عن كثيرين، بل كأنه عن واحدٍ: وفي نسلك الذي هو المسيح.. فإن كنتم للمسيح فأنتم إذاً نسل إبراهيم، وحسب الموعد ورثة» (غلاطية 3:16 و29).

نطلب من الرحمن الرحيم الهادي الحكيم الذي أنجز وعده الأزلي بأن أرسل المسيح فوُلد من ذرية إبراهيم ومات عن خطايانا وقام لتبريرنا أن يوفقنا جميعاً للتمتع بهذا الخلاص العظيم والميراث الثمين فنحظى بالمجد الدائم والابتهاج الكامل بفضل نعمته وكرمه وفضله. إنه القدير على الإجابة. آمين.

عودة الى الصفحة الرئيسية