مجادلة لاهوتية

جرت بين إبراهيم الطبراني

والأمير عبد الرحمان

بن عبد الملك الهاشمي

في بيت المقدس

نحو سنة 820 م.

الفصل الأول

المقدمة العامة وإعداد الحوار

أ - حَيرة الأمير تُجاه حالة النصارى

ذكروا أنّ عبد الرحمان بن عبد الملك بن صالح الهاشمي خطرت بباله فكرة في أمر النصارى وكثرتهم، وعلمهم وفلسفتهم وطبهم وما لديهم من الأدب، وصبرهم على الذلّ، وكيف ضلّوا وطغوا وأقاموا على الكُفر، إذ يقولون إنّ الله ثلاثة أقانيم وإنّ المسيح ابنُ الله.

ولم يزل مفكراً بهذا وأشباهه إلى أن دعا مؤدّبه، وأخبره بما هجس في خاطره وما هو فيه.

ب - اقتراح المؤدِّب عقد لقاء بين المسلمين والنصارى واليهود

فقال له المؤدّب: لا تعجب مما أنت فيه. ولكن هوذا نحن والنصارى واليهود. فإن أحببت أن تبلغ غاية هذا الأمر، فنجمع من علمائهم، وننظر فيما سألت عنه .

قال له الأمير: وما نصنع باليهود وقد أخزاهم الله ولعنهم وأسقط دينهم؟ .

قال المؤدّب: الآن الأمر كما تقول وأشرّ. ولكن نجمع من علمائهم مَن له عِلمٌ ومعرفة. فإن زاد النصارى في قولهم كذَّبوهم، لأنهم أعداء بعضهم لبعض .

ج - دعوة الأمير للمختارين

فدعا بطريرك النصارى ومار إيليا أسقف النسطور، وقال لهما: قد خطرت ببالي فكرة في دينكم، وأحببت أن أبلغ غايته فيما تقولون إنّ الله ثلاثة أقانيم، وإنّ المسيح ابن الله .

فقالا له: إن طلبت هذا، فلا تدركه إلا بمن يبصر الكتب .

فدعا ثلاثة كانوا له: اثنان منهم نصرانيان والآخر يهودي، قد أسلموا على يده. ودعا يهوديَين يبصران الكتب، ودعا طبيبه، وجعل يسألهم عن هذا الأمر. ولكنهم موّهوا عليه القول لأنهم لم يفهموا مراده.

د - وصول إبراهيم الطَبراني

فلما رأى الأمير ذلك منهم، تطلع من مجلسه إلى الطريق. فأبصر راهباً، فقال له: يا راهب، من أين؟ .

فقال: من طبريّة الشام . فدعا به.

فلما دخل عليه سلَّم. فقال الأمير لمن حضر: أتُرى عنده معرفة بما نحن فيه؟ .

فقالوا له: امتحن ما عنده إن يكن عنده شيء. وإلا فخلِّ سبيله .

فسأله الأمير: مَن أنت ومِن أين؟ ومِمن وإلى مَن؟ وكيف وماذا؟ وأين أنت؟ .

أجابه الراهب: أنا عبد الله من آل آدم من أهل قحطان، من طبرية الشام ومأوايَ الأكواخ، معدن العلم والأخبار. وإني لضعيف العمل. أقبلت داعياً إلى الله، حاجّاً إلى بيته المقدّس، أرجو المغفرة والثواب. وأنا الساعة في قصر منيف ومجلس نظيف، أمام ملك شريف، كالقمر المنير، فحيّاه الله من أمير، وقربَّه من السرور، وأبعده من الشرور .

قال الأمير: بَخٍ بَخٍ. ينبغي لك يا راهب، أن تبيِّن لي أمر الدين، ليزول الشك من قلوبنا .

أجابه الراهب: ما لي في ذلك حمد، ولا لي في قلة معرفته معذرة .

الفصل الثاني

الحوار مع الامير

أ - مقدمة

1) طرح موضوع الحوار وحَذَر الراهب

سأله الأمير: فأيّ الأديان أخْيَر وأفضل، وأية الأمم على الله أكرم؟ .

قال الراهب: جُعلت فداك! إن لكل مَقام مقالاً، ولكل كلام جواباً. وهذا مَقامٌ ليس لمثلي فيه مقال، ولا لكلامي جواب، لأني أرى بحضرة الأمير إمامَي النصارى، ومعهما عصبة لا أشك أنهم يعلمون ما سألتَ عنه. فاكتَفِ بهم .

2) وعد الأمير بالأمان وبحرية التعبير

قال له الأمير: لا، ولكنني أجعل لك في المقام مقالاً، وآذن لك بالكلام، وآمرك بالجواب، وأعطيك الأمان. واعلمْ أني في موضع الفضل والكرامة والاحتمال، وباحث عن البيان .

3) مدح الراهب للأمير ولأهل بيته

قال الراهب: ذكرت، أكرمك الله! دون ما يُعرف لكم، جميع أهل البيت، من الفخر والشرف. وذلك أنّ الله قد جعلكم قواعد الإسلام ونور ظلمته وقمر عزّه، وسيف سلطانه وزهرة فخره وبهاء شرفه، وعلم يمينه وأمان رعيته وفردوس ثماره، وعماد فرائضه وقوام سننه وأهل الفضيلة، وهو قادر على إتمامه ودوامه .

ب - نقطة الانطلاق: مسألة الدين الحق

1) موقف الراهب

أ - صفات الدين الحق

وقال الراهب: أما ما سألت عن الدين، فإن الدين الفاضل عند الله هو الدين الذي اختاره لعزته، وأفرح به ملائكته، ورضيه لعباده، وخصَّ به أولياءه وأهل طاعته، وبشرت به أنبياؤه، وختمت عليه رسله، وذخرته في خزائنه الطاهرة أصفياؤه، وقاد إليه الشعوب والأمم بلا سيف ولا قهر ولا مواراةِ باطلٍ، وطهَّر فرائضه من الدنس، وزيَّنه بالمحاسن كلها، وجعله علماً وأماناً وهدىً ونوراً للعباد في كل البلاد .

ب - صفات المؤمن الحق

والأمة الفاضلة هم الذين يُدْمنون الصيام، ويقيمون الصلاة، ويكثرون الصدقات، ويتلون آيات الحق بالليل والنهار، الباذلون أنفسهم وأموالهم، مع احتمال الضيم الشديد وسفك دمائهم في أنواع العذاب المختلف، طاعة لسيدهم وحباً له .

ج - تطابق صفات الدين الحق ودين المسيح

قال الأمير عند ذلك: فإذ قد عرفت أن هذا هو دين الحق، فما بالك مقيم على غيره؟ .

قال الراهب: لا! ما أنا مقيم على غيره، بل إنّي به متمسك وله حافظ وعليه مقيم. لأنّي فيه زُرعت وطلع نباتي، وفيه ظهرت ثماري وفنيت أيام حياتي، ومَعادي إلى ترابي، ومنه أُبعث إلى خالقي .

سأله الأمير: فأيّ الأديان والأمم قصدت؟ .

قال الراهب: قصدت دين المسيح وأمة النصارى .

2) موقف الأمير

أ - إعتراض الأمير: المسيح حنيف ومسلم

قال له الأمير: أبطلت، ونسبْتَ المسيح إلى الشرك، وما كان المسيح يهودياً ولا نصرانياً، ولكنه كان حنيفاً مسلماً، وما كان من المشركين. ونسبْتَ نفسك إليه، وأنت منه بعيد وهو منك بريء. وذلك أنّك تعبده دون الله، وهو مخلوق من مخلوقةٍ، نبي الله وعبد خاضع، أيّده الله بكلمته وروحه، آية للناس ورحمة لهم .

ب - دعوة الراهب للأمير إلى تفريغ النفس لقبول البيان

قال الراهب: أيها الأمير، أمْرُ المسيح وأمْرُنا له جواب عتيد كالنار في الحطب، يريد عقلاً دقيقاً، ورأياً رشيداً يؤمن بالوقوف يوم القيامة. ففرِّغ نفسك إذا أردت البيان لذلك .

قال له الأمير: ما طلبنا هذا الأمر إلا وقد فرّغنا أنفسنا له .

ج - تطابق صفات الدين الحق والإسلام

وقال الأميرولكن قد أخطأت فيما وصفت. وما هذه الصفة لكم ولا لدينكم. ولكنها صفة الإسلام، دين الحق الذي قال: ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً، فلن يُقبَل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين .

وهي صفة محمد خاتم النبيين وسيد المرسَلين. وهي صفة الأمة المرحومة المُحبّة لنبيها وأهل بيته، البارة الطاهرة من كل دنس. وتعرف ذلك من أمة المؤمنين أنّ الله أعزَّه ونصَره من الوجوه كلها، وأمّن ليله ونهاره. وعهده القرآن الذي أنزله نوراً وهدى، وبيَّنه لأصحاب رسول الله الذين لا يؤمنون بكذب، المظهرين شهادة أنّ الله لا إله إلا هو، وأن محمداً عبده ورسوله. فماذا تقول يا راهب؟ .

د - كيفية الحوار

1) الاستعدادات الأولية للشروع في أيّ حوار

أ - ضرورة الإصغاء إلى جميع الأطراف

قال الراهب: صدق الأمير. ولكن قد قيل إنّ من انطلق إلى قاض، بعين دامعةٍ، يبكي ويستغيث به، فرحمه القاضي وقضى له بغير تحقيق - فإذا اجتمع الخصمان جميعاً، افتضح مدّعي الباطل وصار بكاؤه آفةً عليه. فليس من الكلام شيء إلا وله جواب .

ب - اختيار الأسلوب المناسب

من أهل الكلام من لا ينبغي أن يُجاوَبوا. أولئك هم الأخيار أهل العقل والفهم والحلم والتقوى. فأولئك لا يُجاوَبون، بل يُستمع إليهم ويُقبل منهم .

ومن أهل الكلام مَن ينبغي أن يُجاوبوا، ويُناظَروا أشدّ مناظرة. أولئك أهل العقل والفضل والاحتمال والعدل والإنصاف .

ومن أهل الكلام من ينبغي أن يُهابوا ولا يُجاوبوا، إكراما لهم وإجلالاً واتقاءً منهم. أولئك أهل الملك والسلطة والعزّ، وأهل العجلة والضجر وقلة الصبر والاحتمال .

ومن أهل الكلام من لا ينبغي أن يُجاوَبوا أصلاً، بل يُحقرون ويُرذلون. أولئك أهل الضلالة والكفر، والجهالة والغشّ، وأهل المعصية واللعنة .

والأمير قد برئ من الخصلة الرابعة. فاختر لنفسك من أيّ أهل الثلاث خصال تحب أن تكون، فأجيبك على قدر ذلك .

2) أولى مبادرات الأمير

أ - دعوة الأمير للراهب إلى اعتناق الإسلام

قال الأمير: ما أحسن كلامك يا راهب، وما أجهل فعالك. فإنك تتكلم بكلام عقل، وأنت من معرفة الله من أهل الجهل. فدع المزاح ومناقلة الصبيان، واتق الله الذي إليه تصير، وأسلِم على يديَّ حتى أجعلك في أرفع المنازل .

فسكت الراهب ولم يرد عليه جواباً. قال له الأمير: ما لي أراك صامتاً؟ هل عجزت عن الكلام ورد الجواب؟ .

ب - تعجّب الراهب ومطالبته بحرية التعبير

قال الراهب: لم أعجز عن الكلام، لأن مَرْجي واسع وعشبه كثير، وسبلي سهلة وفَرَسي جواد، لا تخاف من عثرة ولا نكبة. وإنني لمعرفة الله في روضة وهدىً ونور وافر غير عسير .

ولكني عجبت من قول الأمير! يجعلني من أهل الجهل، ويجعل الكلام بيننا مزاحاً كمناقلة الصبيان! وكيف لا يكون ذلك وأنا قدام ليْثٍ ضارٍ تتخوفنّ منه العجول! أما تعلم أيها الأمير، أنّ الليث إذا ظهر على مواش في مرجٍ، تشتّتت وضلت عن الطريق؟ .

ج - تأكيد الأمير لتعهداته

قال الأمير: صدقت يا راهب فيما ذكرت من أمر الليث والمواشي، وهو كذلك لا محالة. غير أننا رأينا من الليوث ما يظفر بفريسته ولا يبدو منه شيء تكرهه، إمّا اتقاءً من الله فَيَحْرَج، وإمّا حياءً من الناس. الآن فاعلَمْ يا راهب وأيقِنْ أن هذا الليث الذي تحذر جانبه وتتخوف من صولته قد أوسع المرج لهذه المواشي التي ذكرْتَ بالاحتمال، وسهَّل لها السبيل بالعدل والإنصاف. واتّق الله، ولا تكن من الذين ختم الله على أسماعهم وأبصارهم، فهم لا يصدقون ولا يؤمنون .

د - رفض الراهب اعتناق الإسلام

قال الراهب: أيها الأمير، الذين ختم الله على قلوبهم وأبصارهم هم اليهود والأعراب أيضاً، الذين يشهد عليهم كتابكم ويبرئهم من الإيمان. فأنا لا لهؤلاء ولا لأولئك. بل أنا من عبيد المسيح وأصحابه .

لكن، أيها الأمير، ما لي فيما دعوتني إليه حاجة ولا رغبة، لأني لا أرى لي فيه الغبطة. ولولا كراهية الغضب لقلت: إنّ الله يعلم خلاف كل ما قد ذكرته. فخلِّ سبيلي، جُعلتُ لك الفداء! .

 

3) ثانية مبادرات الأمير

أ - تحذير الأمير ومطالبته بالمزيد من البيان

قال له الأمير: ما أعجب أمرك أيها الراهب! ترشقني بالسهام المسمومة، وتقول لي بعد هذا: خلِّ سبيلي. كذَّبْتَ الله الذي بعث محمداً بالحق. لا تبرح حتى تُسلِم، طائعاً أم كارهاً. أو تجيبني عن قولي وقولكم في المسيح، وجميع ما وصفت به ديني ومدحت به دينكم، باباً باباً وحرفاً حرفاً. فلا تطمَع نفسُك في غير هذا .

ب - اعتذار الراهب وتحديد موقفه الإيماني

قال الراهب: وأما الإسلام، فلو قطعتني عضواً عضواً لما كفرتُ بالمسيح أبداً. وأما أمر الأقانيم والمسيح، فسَلْني عما بدا لك، فآتيك منه بنور يُطفئ كل مصباح.

وأما الذي سألتَ عنه، من أمر دينك وأمر أمة نبيك، فإنّه يُتَّقى ذكر ذلك من صغاركم، لإجلال المُلك والعز. فاعفني من هذا الأمر .

4) التوصل الى بعض نقاط التفاهم في كيفية الحوار

أ - وجوب الحرية الدينية

قال الأمير: صدقت يا راهب، من كان على غير دين الحق ولم يتركه فهو ظالم لنفسه. ومن كان على دين الحق وتركه، رغبةً في المال وعزّ الدنيا أو فزعاً من الموت، فإنّه شقيّ في الدارين. ومن كتم دينه فإنه هالك .

فأما إسلامك فلا حاجة لي فيه. وأما الأقانيم والمسيح فلا بد أن تأتينا بتصحيح ما تقولون. وأما قولك: إنه يُتَّقى من صغارنا، فإنه كذلك. ولكن ليس عندكم بأس ولا مكروه .

قال الراهب: الحكماء يقولون: احذر من مخالطة الملوك. فإن ابتُليتَ وأردت السلامة منهم فغُضَّ طرفك عن محارمهم، وأقصر لسانك عن مجاوبتهم، وصُمَّ أذنيك عن حديثهم، واكتم في المجالس سرهم، واتبع بالتلطف هواهم، تأمن غضبهم. فإنهم ليس بينهم وبين أحد قرابة - فاعفني من هذا الأمر .

ب - الإلتزام بمنح الأمان وحرية الكلام

فقال له الأمير: قد أشعلَ قولك في قلبي ناراً لِمَا قلتَ. واعلم يا راهب أنني قد أرخيتُ لك أطناب ملكي وسلطاني من كل جانب، وفتحت لك أربعة أبواب. فادخل من أيِّها شئتَ بأمان الله وأماني. ولا ترى بأساً ولا مكروهاً .

قال الراهب: إنّ لأهل الإسلام يميناً ليس لها كفارة، وهي الطلاق. فإن أردت فاحلف لي به، وإلا فخلّ سبيلي .

فحلف له بالطلاق أنه لا يرى مكروهاً ولا بأساً، وانصرفوا.

ه - ردود الراهب

1) في الحنيفية

فلما كان الغد، أقبل الراهب وقال: قولك أيها الأمير،إن المسيح حنيف مسلم وإني ألزمتُه الشرك - اعلم أن جميع الكتب ينسبون عبادة الأصنام والمشركين إلى اسم الحنيفية. وقد أوصى المسيح في كتابه المقدس: مُدن السامرة لا تدخلوا .

2) في لاهوت المسيح وناسوته

وأما قولك: إنني منه بعيد وهو مني بريء - فكيف يكون هذا وهو يقول للحواريين: أنتم تؤمنون بالله فآمنوا بي، صدّقوني أني في الآب والآب فيَّ. أنا في أبي، وأنتم فيَّ، وأنا فيكم - فأنا أومن كما آمن الحواريون .

وأما قولك: إنني أعبده دون الله - فمعاذ الله أن يكون هذا. ولكني أعبده بالله، وأعبد الله به، وقد قال: أنا والآب واحد، الذي رآني فقد رأى الآب. وتحقيقاً لهذا القول قولك: إن الله أيَّده بكلمته وروحه، فمن كان كذلك كيف يكون نبياً أو عبداً؟ بل إنه إله معبود وديّان الدين .

3) في رسالة محمد وأمته

قال الراهب: وأما قولك في نبيك: إنه خاتم الأنبياء - فليس هو نبياً، وإنما هو مَلِك ارتضاه الله، وأوفى به وعده لإبراهيم في إسماعيل .

وأما قولك في أمته إنها أمة مرحومة - فإن رحمة الله سابغة على جميع خلقه. فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين، ما لأحدٍ منهم فضل على صاحبه. فأما في العاجل، فإن رحمته على جميع خلقه. فإذا كان في الآجل، فهو أوْلى بخلقه. فإن عفا فبفضله، وإن عاقب فبذنب .

أما قولك.الأمة المحبة لنبيِّها وأهل بيته - فلو شئتَ، تكلمتُ بالحق. إنهم سفكوا دماء أهل بيته وأخربوا أوطانهم ونهبوا أموالهم. وأنت تعرف ذلك. وأية أمة أشرّ من هذه، إذ جاء رجلٌ إليهم وأعطاهم مُلْك الدنيا وضمن لهم الجنة بشفاعته، ثم فعلوا بأهل بيته ما فعلوه؟ .

وما يسمع أحد من الأمم بما فعلوه، إلا حكم عليهم بأنهم قوم قد استبان لهم كذب صاحبهم، فاستحلّوا هذا منه ومن أهل بيته؛ أو قوم ليس على الأرض أشرّ منهم. فقد كافأوا الذي ضمن لهم الجنة، بالسيئات .

يا سيدي، انظر إلى قلّة عقولهم! كيف يُحرِّمون على نفوسهم الدخول إلى الجنة، ويدعون الناس إلى دينهم ويَعِدُونهم بالجنة! قال لهم: وأنا أو إياكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين. وقال: ما أدري ما يُفعل بي ولا بكم. وقال: ما لكم من دونه من وليّ ولا شفيع. وقال: اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تُفلحون. وقال: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا. إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم .

4) في عزّ أمير المؤمنين

قال الراهب: وأما قولك في أمير المؤمنين: إنّ الله قد أعزَّه - فقد أعزّ من كان قبله من الكفار والمشركين. فانظر إلى مُلك الأعاجم وإلى كفرهم بالله. وإنّ الله يحفظهم، وهو يدبر خلقه كيف يشاء .

وأما قولك: إنّه أمن ليله ونهاره - لو أن أمير المؤمنين قائم مع ولده وبني عمه وإخوته، لخشي على نفسه الموت. وتحقيق هذا أنّ لكم منذ ملكتم أقل من مائتي سنة، وقد قتلتم سبعة من الخلفاء، ما فيهم عدو ولا مخالف للإسلام .

5) في القرآن والشهادة

ثم قال الراهب: وأما القرآن، فإني أخبرك أن هذا القرآن جاء به محمد، وكتَبَه أصحابه بعد موته، واسم بعضهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الله ابن العباس، ومعاوية بن أبي سفيان كاتب الوحي. والحجاج بن يوسف، بعد هؤلاء، ألفَّه ورتبَّه .

وأُخبرك بما تعلمه يقيناً أن طائفة منكم تزعم أن النبوّة لم تكن لمحمد وإنما كانت لعلي، فأخطأ جبريل. أراد أن يدفعها إلى علي فدفعها إلى محمد! وتحقيق ذلك أنهم يسمّون أولاد عليٍّ أولاد رسول الله، فأيّ قوم يُنسَبون إلى أمهاتهم؟ طائفة منكم تقول إن النبوّة كانت لعلي، وطائفة منكم يلعنون علياً وعثمان من على المنابر. وطائفة منكم يزعمون أن الأمر كان لأبي بكر وعلي وعمر وعثمان. وطائفة منكم يرون قتل أولاد العباس. وثلاثة أرباعكم ترون اللعنة على معاوية صَدَقَةً، وكلكم تشهدون على الحجاج أنه من أهل جهنم. فأيّ قاضي عدل يشهد بهذا الكتاب لهذه الأمة، إذا كان هذا قولكم في نبيكم وأهل بيته وأصحابه؟ .

وأما شهادته أن الله لا إله إلا هو، فإنما أظهر الله هذه الكلمات على يد موسى، نبيه وصفيّه المبارك .

و - الخاتمة: ردود فعل الأمير

فلما فرغ الراهب من أقواله نظر إليه الأمير بغضب، وتفرس ساعة وقال: لقد جئتَ بعظائم! أيقنتَ بالموت، وتجلدْتَ وقلتَ: أبيِّن للأمير ما عندي. فإن أفلتُّ اشتفيت، وإن قُتلت متّ شهيداً. ولولا حذرك وحيلتك، لكانت المنيّة قد حلَّت بك .

قال الراهب: أيها الأمير، ما ذكرتُ الذي ذكرته ازدراءً بالإسلام ولا تقصيراً به. ولقد حاولت الانفلات منك كما يفر الإنسان من الحية فما وجدت سبيلاً .

قال له الأمير: دع عنك ما مضى وخذ ما كنا فيه، فإني أرجو أن يصرعك الله عاجلاً .

قال الراهب: جُعِلتُ فداك. إنك رمقتني بنظرة قامت منها ناصيتي فَرقاً، وهطلت إبطي عرقاً. قد قال الحكيم: لا تلُم رجلاً يحرس لسانه قدام الملوك. فإن الرُّكب بين أيديهم ترتعد، وتقشعر النواصي وتظلم الأبصار، وتطير القلوب وتضلّ العقول، وتختلط الحنك وتتلجلج الألسن. وذلك لما وُهب لهم من الكرامة والهيبة. والأمير أعزه الله! ممن فضّله الله على جميع الملوك .

الفصل الثالث

اشتراك منظور بن غطفان العَبْسي

في الحوار

أ - المقدمة

1) اعتداد كل متحاور بموقفه

ثم قال الراهب: فإذا أردتُ أوضح لك ما نحن عليه، فادْعُ رجلاً يناظرني وأناظره بين يديك .

فدعا الأميرُ المنظورَ بنَ غفطانَ العبسي. فأخبره بما كان من الراهب. وأوفى إلى الراهب وقال: أنت، أيها النصراني، المتقوِّل على الله الكذب، اجمع الآن عقلك، وانظر كيف تكون. واعلم أنك قد لقيتَ ناراً لا يُطاق ضِرامُها .

قال الراهب: أراك عكازَ أخا عبلة الذي ترك أخته في الغُربة ونجا بنفسه من الورطة، ولا أرى فيك من طرائف عنتر شيئاً. وأظنك ممن إذا حلت به الصيحة قال: أبادر بالصياح فيفرون. ثق بالله واطمئن، فإنك في أمن وخير. فاعلم أنك إن سُمِّيتَ ناراً لا يُطاق ضِرامها فإني بحرٌ لا يُطاق زفيره، فمتى لقي بحري حرَّ نارك أخمده وأهلكه .

قال المسلم: لا قوة إلا بالله. هات قولك في الله .

2) أساس الحوار: الكتب المقدسة والمسيح

قال الراهب: كل بناء لا يكون له أساس لا يتم .

قال المسلم: وما أساس بنائك؟ .

قال الراهب: كُتب الأنبياء والرسل .

قال اليهودي: نحن لا نقبل من الكتب الحديثة شيئاً .

قال المسلم: ما نقبل شيئاً من العتيقة ولا من الحديثة، لأننا لا نعرفها .

قال الراهب لهما: إن شئتما كفيتماني أنفسكما، لأنكما لي خصمان بالحق .

قال المسلم: وكيف ذلك؟ .

قال الراهب: أمَا تشهد يا منظور أن المسيح كلمة الله وروحه، وأنه وُلد من مريم العذراء البتول، من بنات إسرائيل، من غير مجامعة ولا زرع بشر، وأنه أظهر الآيات والعجائب، وطلع إلى السماء، ويأتي ثانية فيدين الدجّال وكل من معه، ولا مسيح حق غيره؟ .

قال المسلم: صدقْتَ، يا راهب، هو كما قلت في المسيح .

ثم قال الراهب لليهودي: بحق أَهْيَا أَشِرْ أَهْيَا، وبحق العشر الكلمات التي نُزّلت على يد موسى وهرون وجميع الأنبياء، هل تعلم أن الله أوعد إسماعيل النبوّة، أو قال إنه يُخرج من نسله نبياً أو رسولاً، أو هل لمحمدٍ ذِكْرٌ في شيء من الكتب؟ .

قال اليهودي: لا والله، ما له ذكر في شيء من الكتب، ولا لأحد من نسله، ولا وَهَبَ اللهُ له غيرَ المُلك والسلطان .

قال الامير: كذبت، يا عاصٍ . ثم قال له: خذوا فيما كنا فيه .

قال المسلم: مِن أين قبلت يا راهب أن الله ثلاثة أقانيم؟ .

ب - المسألة الأولى: الثالوث القدوس

1) التمهيد: مبادئ أساسية وتعريفات لاهوتية

قال الراهب: قبلناه من الحواريين .

قال المسلم: وماذا قال الحواريون؟ .

قال الراهب: نحن معشر الشعوب والأمم، كنا نعبد الأصنام وغيرها، حتى أتانا يوحنا بن زكريا خاتم الأنبياء والحواريين، ودعا إلى معمودية باسم الآب والابن والروح القدس، إله واحد. ففزعنا من هذه الأسماء، فقالوا لنا: لا تفزعوا، فإنها أقانيم الله الواحد .

وليس الأمر كما تُفكرون. إنما نعرف الله بكلمته وروحه جوهراً واحداً وإلهاً واحداً. إذ نقول: ابن الله، فليس هو كمثل الابن من الأب والأم. لكنّ كلمة الله مولودة منه بلا انفصال. ولا هو أقدم من كلمته وروحه، ولا كلمته وروحه بأحدث منه .

ولكنّ الكلمة من الله لم تزل نوراً من نور، إلهاً حقاً من إله حق، من جوهر أبيه، ابن مولود من أب غير مولود، ابن وحيد من أب ليس له والد، كامل غير مُحْدَث، من كامل غير ناقص. إله طاهر من إله طاهر .

والروح البرقليط روح مرفرف متعطف. روح حليم من أب حليم، روح محمود من أب معبود .

فإذا قلنا الآب، فهو الله القوي القادر الذي ليس له ابتداء ولا انتهاء، ولا تغيُّر ولا فناء. وإذا قلنا الابن، فهو الله الكلمة الأزلية الذي لم يزل ولا يزول. وإن قلنا روح القدس، فهو الله الخالق الرحمان الرحيم .

2) إثبات الكتاب المقدس

قال الراهب: ولا تظنوا أن هذه الأسماء لم تظهر إلا على أيدينا، لكن أظهرها الله على يد الأنبياء من قبلنا: اسم الآب في موضع، واسم الابن في موضع، واسم روح القدس في موضع .

وهذا كتابنا قد جئناكم به، فاقبلوه. فإنّا أَرسلنا إلى الشعوب والأمم رحمة من الله إلى العالم. واجمعوا التوراة وكتب الأنبياء، فإن رأيتم تحقيق ما نقول لكم بشهادات من التوراة وكتب الأنبياء فاقبلوه، وإلا فلا تقبلوه .

وجئنا بالإنجيل، فإذا فيه مكتوب: في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله .

وفتحنا التوراة، فإذا في أولها: وكان روح الله يرفّ على وجه المياه .

وفتحنا الزبور، فإذا فيه: بكلمة الله خُلقت السماوات وبروحه أحيا جميع الملائكة، وبقوة الله وعلم قدرته، وبكلمته وروحه اجتمعت مياه البحار، وجمدت الجبال والآكام، ويبست الأرض، وأطلقت الأشجار والأثمار، وانعقد ما في البحر، وكل طير، وانجلت الظلمة وظهر نور المصابيح. وقال داود النبي: لماذا ارتجَّت الأمم وتفكَّر الشعوب في الباطل؟ قامت ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معاً على الرب وعلى مسيحه، قائلين: لنقطع قيودهما، ولنطرح عنّا ربطهما. الساكن في السماء يضحك، والرب يستهزئ بهم. إنما قصد، بهذه: الأقانيم الأزلية. وقال أيضاً: أرسل كلمته فشفاهم. وقال أيضاً: أسبح لكلمة الله. وقال أيضاً: إلى الأبد يا رب، كلمتك مثبتة في السماوات وقال أيضاً: قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك

وقال الله لموسى: انطلق إلى فرعون وقل له: خلّ ابني بكري إسرائيل يعبدني في هذا الجبل. وقال موسى: يا رب، إن سألني فرعون: ما اسم إلهك؟ ماذا أقول له؟. فقال الله له: قل لفرعون: أَهْيَا أَشِرْ أَهْيَا أرسلني. أَهْيَا بعثني. وقال موسى أيضاً: ربنا وإلهنا إله واحد .

وقال داود: يباركنا الله وتخشاه كل أقاصي الأرض .

وقال الله: لنخلق الإنسان على صورتنا كشَبَهنا. وزرع الله في قلوب الملائكة أنه إله واحد. وقالت الملائكة: اليوم يرينا الله صورته ومثاله. افهم أيها السامع إلى قول الله، إذ يقول عن الثلاثة أقانيم إلهاً واحداً، إذ قال: نخلق إنساناً. وقالت الملائكة: اليوم يرينا الله صورته. فلما خلق الله آدم، أسكنه الجنة وقال: هوذا آدم قد صار مثل واحد منا. ليس أن آدم صار كذلك بذاته. لكن لسابق علم الله أنه شاء أن يكون من نسل آدمَ، آدمُ الثاني الذي هو أحد أقانيم الله الأزلي، ويطلع الى السماء ويجلس على الكرسي. من أجل هذا قال الله: هوذا قد صار آدم مثل واحد منا .

وقال الله: هلم ننزل ونبلبل لسانهم. افهم أيها السامع إلى قول الله: هلم ننزل، سبحانه وتعالى الذي لا يوصف لا بنزول ولا بصعود. ولكنه قال هذا ليعرف عباده أنه وكلمته وروحه جوهر واحد وإله واحد .

قال سليمان الحكيم: من صعد إلى السماوات ونزل؟ من جمع الريح في حفنتيه؟ من صرَّ المياه في ثوب؟ من ثبّت جميع أطراف الأرض؟ ما اسمه وما اسم ابنه إن عرفت؟ .

قال أيوب الصدّيق: روح الله خلقني، وهو علَّمني الحكمة والفهم. وبحكمته ملك كل شيء، وبروحه يدين الخلائق .

وقال إرميا النبي: روح الله هو الناطق بلساني .

وقال إشعياء النبي: يبس العشب وذبل الزهر، أما كلمة الله فتثبت إلى الأبد .

وقال أيوب أيضاً: يمشي على أعالي البحر. فهل مشى على البحر إلا المسيح الذي تريد أنت أن تطفئ نوره، والله مُظْهره ومعظِّمه؟ له السبح والمجد إلى الأبد .

قال الأمير لمن حضر: أحقٌّ ما قال الراهب؟ .

قالوا: نعم، أيها الأمير، وأكثر من هذا في الكتب .

قال الراهب لليهودي: ماذا تقول أنت حقاً؟ ماذا قال الله وما بلغت أنبياؤه ورسله؟ .

أجاب اليهودي: لا يقاومك في أن الله وكلمته وروحه واحد، إلا من لا ينظر الكتب .

3) الإثباتات بالتشابيه

وسأل الراهب: ما تقول، أيها المسلم؟ .

أجاب المسلم: آمنَا بالله ورسله. ولكننا نعلم أنه ليس والد إلا وهو أقدم من ولده .

قال له الراهب: صدقتَ أيها المسلم، كل والد أقدم من ولده، ما خلا الله وكلمته وروحه. الكلمة مولودة منه بلا حَدَث، ظاهرة منه بلا انفصال، إلا أننا نقول إن الله أب. فقد نعلم أن الشمس والقمر والنار مخلوقة، ونرى ضوء جميعها مولوداً منها بلا حَدَث. وحرارتها ظاهرة منها بلا انفصال. كذلك الله وروحه وكلمته بلا تفريق ولا انفصال. لا هم أقدم من كلمته وروحه، ولا كلمته وروحه بأحدث منه، ولا نعرف الله إلا بالكلمة والروح. ولو كان بين الله وبين كلمته وروحه انفصال، لكان له ابتداء وانتهاء .

قال الأمير: ويحك يا راهب! وما تُفرقون بين الله وبين كلمته وروحه؟ .

قال الراهب: كما أنه لا يُفرَّق بين الضوء والحرارة وقرص الشمس، كذلك لا يُفرَّق بين الله وكلمته وروحه. لو عُزل عن قرص الشمس الضوءُ والحرارة لم تكن الشمس شمساً. كذلك لو فارق اللهَ كلمتُه وروحُه، لَعَدمَ ولم يكن إلهاً، وكان غير حي ولا ناطق. لأن داود يقول: سبحوا لكلمة الله. وقال: أرسل روحه فأحيا وجدَّد وجه الأرض. ولم يكن داود يسبح ولا يأمر بالتسبيح لمخلوق .

4) الموجز الختامي

وقال الراهب: إن كلمة الله عجيب، لأن الذي لا حدَّ له ولد الابنَ الذي لا ابتداء له، وأظهر الروح بلا انفصال ولا حد، أزلي من أزلي، خالق من غير مخلوق، متجسم من غير ذي جسم، إذ لا يفترق بعضهم من بعض، لأنها أقانيم غير محدودة ولا مدروكة ولا موصوفة .

ج - المسألة الثانية: المسيح

1) التجسد

قال المسلم: أخبرني يا راهب، ألم يكن الله قادراً على تنفيذ أمره، وهو جالس على عرشه، حتى اصطفى هذا الإنسان كما تقولون؟ .

أ - كيفية التجسّد وغايته

قال الراهب: عجبتُ من قلة فطنتك إلى مذاهب الكلام. تقول: الرحمان على العرش استوى وبهذا تجعله جالساً وعلى العرش مستوياً، ثم تنفر من قولنا إنه حل في بشر حلولاً بلا حد ولا وصف. وأنت تصفه بالجلوس والاستواء! أتقول إنه كان بعيداً من العرش حيناً ثم استوى عليه؟ أو تقول إن العرش كان خالياً منه زماناً ثم استوى عليه من بعد ذلك؟ أم تقول إنه كان متكئاً (تبارك وتعالى)؟ أنصِفْنا الآن! واعلم أنه ما استوى شيء على شيء كما وصفت إلا وهو راكب، وكل راكب هو مركّب محدود، والذي ركَّبه وَحَدَّهُ أقوى وأعظم منه. فلا تصف الله بهذه الصفة .

نرجع إلى قولك: ألم يكن الله قادراً على تنفيذ أمره؟ - بل إنه قادر قويّ قاهر. ولكنه لا يُرى ولا يُوصف ولا يُدرك جوهره، يُسمع كلامه ولا يُنظر إليه، كما أخبرنا به موسى والأنبياء والحواريون .

فلما رأى الله جلّ اسمه! قلوب الناس قد فسدت، وضميرهم يزداد شراً وتمادياً في خلاف الحق، فطال زوغانهم عما دعاهم إليه من الإيمان به، ظهر الإله الأزلي في جسد البشر. فساق العباد بحكمته وفضله ورحمته، وأنقذهم من الضلالة والكفر التي كانوا عليها من عبادة إبليس، وهداهم إلى الحق. إذ لم يظهر الله الكلمة بجوهره ولم يتغير من جوهره، ولم ينزل من مكانه إلى مكان لم يكن فيه، ولم يَخْلُ العرش منه ولا السماوات والأرض، بل في أسفل القرار وأعلاه، خارج غير داخل وداخل غير خارج، بلا صفةٍ ولا حدٍّ ولا امتزاجٍ ولا افتراقٍ .

ب - قبول الناس للمسيح المتجسد

قال المسلم: فإن الناس لم يُطيعوا المسيح، لكنهم أذلوه بالصليب كقولك .

قال الراهب: بل قبله الناس الذين اصطفاهم ورحمهم وجعلهم يعرفون طرقه، وينتهون إلى طاعته. وأما الذين لم يقبلوه، فاليهود والكفرة .

ولكن انظر إلى تدبير المسيح جل ثناؤه! إنه أظهر فيهم الآيات والعجائب. ولم يَدْعُ الناس إلى أمرٍ دون أن يبرهنه لهم بما يُظهره من الآيات والأعاجيب. فبرهن أن كل أعماله أعمال إله، حتى أقروا أنه ابن الله الحي .

فمن عظيم شر بني إسرائيل وفساد قلوبهم وحسدهم لم يلتفتوا إلى صنيعه، ولم يفكروا في كتب الله، بل صلبوه. ولم يُسلّم نفسه في أيديهم تقصيراً منه ولا ضعفاً. لكنه فعل ذلك بحكمته وحلمه. ولم يعجل عليهم العقوبة، وهو يعلم أنهم لا يؤمنون به .

2) اللاهوت

قال المسلم: إنكم، يا معشر النصارى، لا تعظمون المسيح إلا لأنه أحيا الموتى، وقد أحيا الموتى من قبله أليشع وحزقيال وغيرهما من الأنبياء. وليس كل من أحيا الموتى بإذن الله ينبغي أن يُتَّخَذ إلهاً ورباً يُعبد .

أ - الإثبات الأول: المسيح هو الحياة

قال الراهب: لسنا نتخذ المسيح إلهاً لأنه أحيا الموتى فقط. لكنه أحيا الموتى وقال: أنا القيامة والحياة وأنا الطريق والحق والحياة وابن الله، ونور العالم، أنا الراعي الصالح، أنا أُميت وأنا أُحيي وأنا ديّان الدين .

ب - الإثبات الثاني: المسيح متفوّق على الأنبياء

1) في إجراء المعجزات

قال الراهب: وأظهر المسيح الآيات بأمر منه نافذ، لا يحتاج فيه إلى طلب ولا إلى تضرع، كما فعل الأنبياء. فمن صنع كما صنع المسيح، استأهل أن يُقبل منه ما قاله على نفسه وعلى غيره .

وأما ما ذكرتَه من الأنبياء، فلستُ أنكر ذلك. ولكن شتان بين ما صنع الأنبياء وما صنع المسيح من الآيات. لأن النبي كان، إذا أراد أن يفعل أمراً، صام وصلى وتضرع وطلب وزاد في صلاته، وتشفَّع بعد ذلك. والمسيح لم يكن بهذه المنزلة، ولكن كان يمشي في الأسواق وبين الناس ويُظهر الآيات بأمرٍ منه نافذ .

ولم يكن الأنبياء يعملون الآيات في كل وقت، أما المسيح فكان يُظهر الآيات إذا أحب وأراد: ميت يحييه، وأعمى يفتح عينيه، أو مريض يشفيه، وألوفاً من الناس جياعاً أشبع من الخبز اليسير. كل ذلك بقدرةٍ فيه حاضرة .

2) في علم الغيب

ولم يكن الأنبياء يطّلعون على الغيب ولا على ما في القلوب. وأما المسيح، فكان يخبر الناس بضمير قلوبهم، ويعلم الخفيات ويخبرهم بما كان ويكون .

3) في الوعي بلاهوته ورسالته

ولو قال الأنبياء للناس: إننا أبناء الله، لحقَّ للناس أن يقبلوا قولهم لِمَا كانوا يُظهرون من المعجزات. ولكنهم لم يكونوا يكذبون، ولا يدَّعون ما ليس لهم. ولكنهم قالوا: إنّا عبيد الله. وقال المسيح: أنا ابن الله. صدق المسيح، وصدق الأنبياء .

4) الصلب

أ - موقف العبسي: شُبِّه لهم

قال الأمير: ما أجرأك، يا راهب على الله! أنت تقول إن المسيح ابن الله، وتقول بعد ذلك إنه صُلب. أتُرى أن الله كان يسلّم ابنه للصلب؟ معاذ الله من ذلك! لكن شُبِّه لهم .

ب - رد الراهب: التشبيه مستحيل من قبل الله، وشهادة الرسل واضحة لا تُكذَّب

قال الراهب: أحسب أن الأمر يُشكل على اليهود الفَسَقة، فهل أُشكل على الحواريين، أنصار الله؟ فإن كان الله شَبّه ذلك للرسل، فإنما جاءت الضلالة من الله، وحاشا الله! لأن الرسل قالوا إنهم عاينوه مصلوباً، وذاق الموت ودُفن. وقام بعد ثلاثة أيام، وأتاهم مراراً بعد قيامته وكلمهم، ومكث على الأرض بعد قيامته أربعين يوماً، وطلع الى السماء أمامهم، وعاينوه صاعداً .

فكيف يكون شُبّه لهم؟ هل يُتَّهم الرسل بالكذب، ونبيُّك يشهد أنهم أنصار الله، ولم ينطقوا إلا بما لقنهم روح القدس؟ هل كان الله يلقنهم الشبه الباطل ليُضل عبادَه؟ معاذ الله من هذا القول! لا تقصر بالمسيح، ولا تكذب رسله .

قال المسلم: ما أُقصّر به، وإني أفضله أكثر منك وأنا أولى وأحق به منك أضعافاً .

قال الراهب: إذا سمَّيت الملك السيد عبداً، أو ألقيت الرجل الشريف من أبيه، فقد بالغت في التقصير. لأنك تُسمي المسيح، الذي تشهد عليه أنه كلمة الله وروحه، عبداً ذليلاً مثل سائر الناس. وتقول إنه ليس ابن الله، والكتب تشهد له بذلك وتوضحه لنا .

د - المسألة الثالثة: الإنجيل والكتب المقدسة

1) الزعم بتحريفها

قال المسلم: هذا القول الذي تقوله إنما هو في إنجيلكم المحرف وكتبكم المحرفة. وأما الإنجيل الأول، فهو عندنا. قبلناه من نبينا. لأن يوحنا وأصحابه كانوا قد فقدوا الإنجيل بعد طلوع المسيح الى السماء، ووضعوا ما أحبوا. خبَّرنا بهذا نبينا محمد .

2) إثباتات صحتها

أ - شهادة الرسل أنصار الله

قال الراهب: فإن يكن الأمر كما ذكرت، فَادْعوا بالإنجيل والكتب الصحيحة التي عارضتم بها كتبنا، حتى عرفتم واستبان لكم تحريفها، ونأخذ بالصحيحة ونبطل المحرَّفة. فهل عندكم الكتب الصحيحة، وقد كلَّف الله نبيكم بالهيمنة عليها؟! ثم كيف تزعم أن نبيك أخبرك بهذا، وهو شهد للحواريين أنهم أنصار الله، وأن الله أوحى إليهم؟ .

ب - إلزاماتها الروحية والأخلاقية، وقبول الناس لها

ثم قال الراهب: ثم أخبرني: كيف قبل الملوك وجميع الناس هذا الكتاب المحرَّف من يوحنا وأصحابه، وأنت تزعم أنهم فيه شركاء؟ هل لأنهم طمعوا في أموالهم، أو خافوا من كثرة أجنادهم، أو فزعوا من حدّ أسيافهم، أو رغبوا في طاعة فرائضهم وسننهم؟ فإن ادَّعيت شيئاً من هذا، فقد عرف الناس حالهم، وما أُمروا به من الزهد والتواضع وتوزيع الأموال. فلا بدّ أن يكون لهؤلاء قدرة شريفة أظهروها للملوك والعامة، حتى قبلوا كتابهم ودينهم .

إن الملوك والناس لم يقبلوا هذا الإنجيل من يوحنا وأصحابه لرغبة في أموالهم، ولا حذراً من أجنادهم، ولا خوفاً من أسيافهم ولا طاعة لوصاياهم. بل لأنهم رأوا الآيات والعجائب، من إقامة الموتى وإخراج الشياطين وشفاء الأمراض المختلفة، من يوحنا وأصحابه .

ج - سمو تعليمها على الإنجيل المزعوم

ثم قرِّب هذا الإنجيل الذي تزعم أنه محرَّف، إلى قولك في الإنجيل الأول. وتنظر أيهما أقرب الى العدل، وأيهما أصح وصايا وأعمالاً. وصاياك وأعمالك، أم وصاياهم وأعمالهم من الصوم والصلاة والصدقة، والزهد في جميع اللذات، وتوزيع الأموال على أهل الحاجة والمسكنة؟ فتعرف النور الواضح، ويظهر لك فضله على ما تدَّعيه أنت وغيرك .

د - توافقها الداخلي الكامل: الوعد بالمسيح وتحقيقه

قال الراهب: وأخيراً، ألا تزعم، أن الله ذكر في جميع كتب الأنبياء ورسله أنه يُخرج من نسل آدم ومن نسل إبراهيم، ومن آل إسرائيل ومن صُلب داود رجلاً، يجعله الله فكاكاً وخلاصاً لعباده، ووسيطاً بينه وبين عبيده؟ فلم نزل نترجَّى ذلك حقباً بعد حقب حتى تمت الأيام التي فيها ظهر. فلما ظهر وأظهر الآيات، وتمَّت كتب الأنبياء، كفرتم أنتم به، وتزعمون أن محمداً أعزّ وأكرم على الله منه .

ه - الخاتمة: الرد على اعتراضين

1) حول تفوّق المسيح على أي نبي أو رسول آخر

قال له الأمير: ويحك يا راهب، ألا تعلم أن محمداً أعز وأكرم على الله من المسيح ومن آدم وذريته كلها؟ .

قال الراهب: ما أعلم ذلك. ولكني أعلم أن السماء أشرف وأكرم عند الله من الأرض، وسكان السماء أشرف وأكرم عند الله من الآدميين. وأعلم أن المسيح في السماء العليا، ومحمداً وجميع الأنبياء تحت الثرى، وأن السماء كرسي الله وعرشه، وأن المسيح جالس على كرسي العزة عن يمين الآب فوق الملائكة والعباد. فكيف يكون مَنْ تحت الثرى أكرم على الله ممن هو في السماء على كرسي العز؟ .

2) حول عِلم المسيح بالخفيات

قال المسلم: ألا تزعم أن المسيح يعلم الخفيات وما تضمره القلوب؟ فكيف عندما سأله تلاميذه عن موعد يوم القيامة، فقال لهم إنه لا يعلم ذلك إلا الله وحده؟ .

قال الراهب: بل قد علم متى يكون ذلك، ولم يحب أن يُعْلِم أحداً عن ذلك اليوم. وأما قولك إلا الله وحده فإنما قال إنه لا يعلم ذلك إلا الآب وحده. فقد صدق. إن الله أبوه ولا يعلم أحد غيره، وليس بين المسيح وأبيه انفصال ولا خلاف .

قال المسلم: لا أقبل هذا القول منك حتى تجيئنا بتصحيحه .

قال الراهب: أرأيت إذ عصى آدم ربه في الجنة، وظهرت سوأته واختبأ، فصاح الله به: آدم، آدم، أين أنت؟. فقال: هاءنذا، أكان الله لا يعلم أين هو؟ .

قال المسلم: نعم، قد علم .

قال الراهب: ما كان يعلم أين هو! ولو كان يعلم أين هو، ما ناداه! ولكنه ناداه كرجلٍ لا يعلم أين صاحبه! وكما علم الله أين آدم فناداه، كذلك علم المسيح موعد يوم القيامة. وكيف لم يعلم موعد القيامة، وقد أخبرهم بعلامات ذلك اليوم، وبالآيات التي فيه وقبله؟ .

الفصل الرابع

اشتراك البدوي الباهلي

قال الأمير: إنك يا راهب قد تكلمت على الله بالعظائم. وقد أتاني رجل من العرب، مسلم اسمه الباهلي، ومعه معرفة ما أنتم عليه. فأحضره لك حتى تخاطبه بين يديَّ .

قال الراهب: نعم أيها الأمير .

أ - مسألة خاصة بالمسيح: كيف تستقيم أن تسكن كلمة الله في عيسى، باطنه وظاهره؟

1) أسئلة الباهلي

ولما أحضره، عرّفه قول الراهب وما جاءهم به. فنظر إلى الراهب طويلاً ثم قال: إنكم يا معشر النصارى، تفترون على الله جهاراً، إذ تزعمون أن كلمة الله الأزلية سكنت في عيسى، ظاهره وباطنه، وأن عيسى صُلب على خشبة، وطُعن بالحربة، وثُقبت يداه ورجلاه .

فإما أن تقولوا إن الكلمة تنحَّت عنه عند طعن الحربة وحرارة وقْع الحديد، وإمّا أن تُلزموا الكلمةَ ما لزم عيسى من الأوجاع والموت. وتكون كاذباً في الحالتين، لأنك تقول إن كلمة الله ساكنة في عيسى، ظاهره وباطنه، بلا امتزاج ولا افتراق. فكيف يكون هذا؟ .

2) ردود الراهب

قال الراهب: أنا أخبرك كيف تستقيم كلمة الله ساكنة في عيسى، باطنه وظاهره، لا ينالها ما نال عيسى من الأوجاع .

أ - التشابيه بالملائكة الحراس

وسأل الراهب: من ينفخ الروح في الطفل وهو في بطن أمه؟ .

قال المسلم: هذا ملاك يبعثه الله ومعه نفس روحانية، فينفخها في الطفل وهو في بطن أمه .

فسال الراهب: الملاك مخلوق محدود أم لا؟ .

قال المسلم: مخلوق محدود .

قال الراهب: ومع كل إنسان ملاك موكل به حتى يقيمه يوم القيامة قدام الديّان .

قال المسلم: نعم .

قال الراهب: فنحن في هذا البيت والملائكة معنا، ولو وقع هذا البيت علينا وقَتَلنَا، من كان يأخذ نفسنا؟ .

قال المسلم: ذلك الملاك الذي هو معنا وبنا موكّل .

قال الراهب: وإن غضب الأمير على رجل من هذه الجماعة، فحلف أنه يطبخه بالزيت، فدعا بقِدْر عظيمة فأجلس ذلك المغضوب عليه في القِدر، وصبَّ عليه من الزيت ما يغمره، وأمر أن تُطبَق القِدر وترصّص ويوقد تحتها، فهل الملاك الموكل به، معه في القِدر أم خارج القِدر؟ .

قال المسلم: هو معه داخل غير خارج وخارج غير داخل، وهو الذي يقبض روحه .

قال الراهب: وكيف يكون هذا مخلوقاً محدوداً، داخلاً غير خارج وخارجاً غير داخل؟ إما أن تقول إن الملاك خارج الرحم، فإذا خرج الطفل من بطن أمه نفخ فيه الروح، وإما أن تلزمه الرَّحم الذي فيه الطفل. وإما أن تقول إن الملائكة الموكلين بنا يتنحّون عنا عند وقوع البيت، وإما أن يتحمَّلوا العذاب والموت الذي لزمنا. وإما أن تقول إن ملاك ذلك المطبوخ بالزيت تنحَّى منه، فإذا مات قبض روحه، وإما أن تُحمِّله الأوجاع والموت التي تَحمَّلها ذلك الإنسان! .

قال المسلم: إن الله خلق الملائكة روحانيين، لا يُوصفون ولا يُحدّون وهو الفعّال لما يريد .

قال الراهب: لا بد من الإقرار بأحد الأمرين: إما أن يتنحى الملائكة عن البشر عند الشدائد، وإما أن يتحمَّلوا ما تحمَّله البشر عند الشدائد .

قال المسلم: بل إن الملائكة مع العباد بلا حد ولا افتراق ولا امتزاج، ولا ينالهم ما نال العباد من الشدائد .

قال الراهب: أنت قد أقررت أن الملائكة مخلوقون محدودون، وهم مع العباد بلا حد ولا صفة، ولا ينالهم ما ينال العباد من الشدائد والرخاء. فكيف تكلفني أن أصف لك الخالق الذي خلق الخلائق والذي لا يُحد ولا تدركه العقول وليس كمثله شيء؟ .

ب - التشابيه بالشمس

قال الراهب: وأما قولك عند طعن الحربة ووقع الحديد فماذا تقول في جملٍ بارك في الشمس، ثم أخذْتَ حربة طعنتَه بها وقطعْتَه عضواً عضواً؟ أكان طعن الحربة يعطل حرارة الشمس وسلطانها، أم هل كان ينقطع من الشمس شيء مع أعضاء الجمل؟ .

قال المسلم: لا، يا نصراني، ما ينال الشمس مما ذكرت شيئاً .

قال الراهب: لا بد من الإقرار بأحد الأمرين: إما أن تتنحَّى الشمس عن الجمل عند طعن الحربة وتقطيع الأعضاء، وإما أن تتحمَّل الشمسُ ما تحمَّله الجمل! .

3) المبادئ الختامية

ثم قال الراهب: كما أن الملائكة مع العباد بلا حد ولا افتراق ولا امتزاج ولا حصر جوهر، ولا ينالهم ما ينال العباد، كذلك كلمة الله الخالقة الأزلية مع المسيح في البطن والميلاد والشدة والرخاء، وعلى الصليب، وعند طعن الحربة والحديد، ومعه في القبر، وهي بعثَتْه وأصعدَتْه الى السماء العليا، من غير حصر جوهره، لا ينالها شدة ولا رخاء، تبارك وتعالى عما وصف الواصفون! .

ب - مسألة خاصة بالإيمان والإسلام: ما هو الوضوء الحقيقي؟

1) أصل الوضوء ومعناه

قال الباهلي: ما بالكم لا تتوضأون في كل صلاة ولا تغتسلون من الجنابة؟ .

قال الراهب: وما هو تفسير الجنابة؟ .

قال المسلم: الاحتلام ومضاجعة الأهل .

قال الراهب: هل أمرك الله بهذين الأمرين؟

قال الباهلي: لا، ولكن هكذا أمرنا نبينا .

قال الراهب: ليست هي إذاً جنابة. وتحقيق ذلك أن الله قال عن المؤمنين والمؤمنات: الزواج مقدس، والمضجع غير نجس، ولا يلزم رجلاً احتلم ذنبٌ ولا عيبٌ. وإنما الجنابة ارتكاب المحارم .

2) السبب الذي من أجله أمر محمد بوضوء الإسلام

ثم سأل الراهب: أيُّما عندك أشرف: الإيمان أم الإسلام؟ .

قال المسلم: الإيمان هو الإسلام والإسلام هو الإيمان .

قال الراهب: فإذاً كتابك يرد عليك لأن في موضع قال لكم: اتقوا الله حق تُقاته، ولا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون. فقلتم.يا نبيَّ الله، من يطيق هذا؟. فقال لكم: فاتقوا الله ما استطعتم، فترى أن الإيمان أشد من الإسلام وأشرف منه. وكما لم تقووا على الإيمان فأمركم بالإسلام، أمركم بالماء لأنكم لم تقووا على وضوء الإيمان .

3) وصف الوضوء الحقيقي، أي وضوء الايمان

قال المسلم: وما هو وضوء الإيمان سوى الماء؟ .

قال الراهب: استمع الى قول الحق ووصف وضوء الإيمان: الاستنجاء من الزنى، لا تنكح ولا تنتكح، والتوضؤ من السرقة، والتمضمض من الكذب، وغسل الوجه هو غض الطرف عن المحارم وصمّ الأذنين عن سماع كلام الهراء، ومسح الرأس هو جمع العقل بين يدي الله، وغسل القدمين هو كفهما عن المشي في المعاصي، والغسل من الجنابة هو التوبة الصادقة من ارتكاب المحارم. فهذه صفة وضوء الإيمان وغسله .

4) فضل وضوء الإيمان على وضوء الإسلام

قال المسلم: ما أحسن ما وصفت يا راهب، وهو الحق. غير أن الله جعل الماء طهوراً. والماء ينظف البشر، ويفتح أبواب الصلاة، ويدني من الله .

قال الراهب: فما تقول في جماعة من المسلمين خرجوا في سفر فوقعوا في مفازة ثلاثة أيام، ولم يجدوا الماء فانتقض وضوؤهم، ومنهم من أصابته جنابة، فماذا يصنعون في وقت كل صلاة؟ .

قال المسلم: من قضى منهم حاجة، يتمسح بحجر ثلاث مرات أو يَتَيَمَّم بالتراب. ومن أصابته جنابة يفعل مثل ذلك .

قال الراهب: فإذا أفرج الله عنهم ووجدوا الماء وتوضأوا واغتسلوا، هل عليهم أن يُعيدوا كل صلاة صلوها في المفازة أم لا؟ .

قال المسلم: لا، ولكن قد قبل الله صلاتهم وأجاز لهم ذلك كما يحب الله .

قال الراهب: فما أرى للماء فضلاً، أنه يفتح أبواب الصلاة ويدني من الله. هوذا قد قام التراب مقامه وفتح أبواب الصلاة. فلا تفتخر بوضوئك بالماء، فإن الماء لا يُدني الفاجر من الله، ولا يبعد الترابُ المؤمنَ من الله .

ج - المسيح: مخلوق أم غير مخلوق؟

1) عرض المبدأ الأساسي

قال الباهلي: ألا تقول إن المسيح مخلوق ابن مخلوقة؟ .

قال الراهب: أما بجوهر أبيه فهو الخالق، وأما بجوهر أمه فهو مولود من مخلوقة .

قال الباهلي: فإنه لا يستقيم أن يُسجد لمخلوق .

2) شهادة القرآن حول السجود لآدم

قال الراهب: ما تقول في أمّة سجدت لمخلوق، وهي أكرم الخلق على الله؟ وإني أنبئك بأمة قالت: لا نسجد لمخلوق وهي أشرّ الخلق عند الله حالاً .

قال له الأمير: فإنا لا نعرف هذه الأُمة .

قال الراهب: أليس إذ قال ربك للملائكة: اسجدوا لآدم فسجدوا، إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين؟ .

قال الباهلي: هذا قول الله حق يقين لا ينكره أحد .

قال الراهب: فماذا ترى: هل الملائكة هم المشركون، أو ترى إبليس وجنوده مؤمنين؟ أو ترى الله جلّ وعزّ محابيَ الملائكة وظالمَ الشياطين؟ .

قال له الباهلي: لا، لعمري ما هو كذلك، بل الملائكة مؤمنون طائعون، والشياطين عصاة كفرة .

3) شهادة الكتاب المقدس حول كرامة المسيح

قال الراهب: لم يخلق الله الخلائق، وسبق بإظهار الآيات والعجائب على يد الأبرار والأخيار في القديم وعلى يد الأنبياء والرسل من بعد، إلا لكرامة مسيحه، حتى إذا ظهر لا يكون لأحدٍ في اتِّباعه إنكارٌ .

وكما قال للملائكة: اسجدوا لآدم، فمن سجد له كان أكرم الخلق عليه، فمن أبى واستكبر صار أشرّ الخلق عليه حالاً، كذلك قال في مسيحه للملائكة والبشر: هذا ابني الحبيب الذي به سُررت، فله اسمعوا واتبعوه ولا تمتروا. فلا شك بالذين يسمعون له ويتبعونه أنهم حسنو الحال عند الله. والخوف والخزي على من أبى واستكبر.

والأمر الآخر، أنه لا شك في أن المسيح أكرم وأعلى وأشرف من آدم .

فضحك الأمير وقال: أقنعت أيها الراهب .

الفصل الخامس

اشتراك الحاج البَصْري

أ - التمهيد: تقديم الضيف وعرْض وضْع الحوار

ثم جاء رجل من البصرة وبيت المقدس حاجّاً. فلقيه المنظور في المسجد وسلم عليه وتآنسا وتعارفا. فقال له المنظور: ألا إني أحدثك بأعجوبة! إن الأمير قد لجّ في البحث عن دين النصارى ليبلغ فيه غايته. وعنده راهب ونحن نجادله منذ جمعة، وليس ينهزم . قال له البصري: مِن أين هو؟ . قال له المنظور: من أهل الشام. ولكن منشأه في العراق. وهو قوي الحجة من الكتب. فلا تناظره في شيء منها، فإني لست أناظره في شيء من الكتب . قال له البصري: اجمعني وإياه حتى أكلمه . قال المنظور: لا تقبل من كلام كتبه شيئاً. فقد قال لنا نصارى قد أسلموا عندنا إنّا لا نقوى عليه . فقال له البصري: لا نقبل من كلام كتبه شيئاً لأن الروم حرَّفوها بقدرتهم وسلطانهم، وهؤلاء قبلوها منهم .

فأدخله إلى الأمير، وسلَّم عليه، وأجلسه الأمير عنده.

ب - مناظرة مطولة حول لاهوت المسيح

فقال البصري للراهب: يا راهب، ألا تزعم أن المسيح إله وأن اليهود عبيد؟ .

قال الراهب: حق يقين إنه إله الخلائق كلها .

1) لماذا دفع المسيح الجزية؟

قال البصري: كيف أدى الجزية التي فرضها اليهود على الناس درهمين درهمين؟ .

قال الراهب: نعم، أدّاها عنه وعن تلميذه سمعان .

فضحك البصري ومن حضر. ثم قال: ويحك يا راهب، كيف يكون إلهاً وقد ذل وخضع وأدّى فريضة فرضها عليه عبيده؟ .

أ - عرض قصة الإنجيل

قال الراهب: ما ذل ولا خضع. إلا أنه بفضله وحلمه وحسن تدبيره. وأُخبرك كيف أداها. لأنه كان يُظهر هذه العجائب والآيات في كل موقف .

سأل الذين يأخذون الجزية تلميذه سمعان: أما يوفي معلمكم الدرهمين؟ فأجاب سمعان: بلى. فلما عاد سمعان للبيت ابتدره المسيح بالسؤال: ممَّن يأخذ ملوك الأرض الجزية؟ أمِن بنيهم أم من الأجانب؟ فأجاب: من الأجانب. فقال المسيح: إذاً البنون أحرار. ثم ليُظهر تواضعه وصبره ومحبته أمر سمعان أن يذهب الى البحر ليلقي صنّارته. وقال له: السمكة التي تطلع أولاً خذها. ومتى فتحت فاها تجد إستاراً. خذه وأعطهم عني وعنك؟ .

ب - تحليل معناها

ثم قال الراهب: فانطلق سمعان وأدّاها. ورجع إلى نفسه قائلاً: إن كان سيدنا يفعل ما يشاء بكلمته، وقد رضي أن يؤدي لهؤلاء المنافقين فريضة، فنحن أحق بالرضى وبأن ندعو الناس إلى اللين والتواضع والاحتمال والصبر على الخوف. وهكذا ترى أيها البَصْري أننا لا نعبد إلهاً ذلّ وخضع، بل إلهاً عزيزاً قادراً قاهراً، يعلم الخفايا، ويخلق الفضة، ويضرب الدراهم في جوف السمك وهو حي في البحر، بكلمته .

ج - أُسس التحليل

قال البَصْري: كيف تعرف أن تلك الدراهم التي أدّاها كانت من هذا الوجه؟ .

قال الراهب: بيان هذا إنجيل الله الطاهر، وشهادات الحواريين أنصار الله الذين لا يُتَّهمون بكذب، وإقرار الجماعة أن المسيح كلمة الله وروحه، وأنه قد أظهر الآيات والعجائب، وأحيا الأموات، وقهر الشياطين، وشفى الأمراض المختلفة، وأشبع ألوفاً من طعام يسير، وخلق خليقة وغيّر خليقة. وذلك أنه مسخ من اليهود قردة وخنازيراً، وخلق من الطين كهيئة الطير فنفخ فيها، وقال له طِرْ فطار. ومن يفعل هذا، لا يُنكَر له شيء .

2) ما القول لو عرض لمريم عارض ومات المحمول منها؟

أ - الافتراض

قال البَصْري: يا راهب، ألستم تزعمون أنه منذ أن قال جبرائيل لمريم: السلام عليك يا مملوءة نعمة، الرب معك، صار ذلك المحمول من مريم إله الخليقة ومدبرها؟

قال الراهب: حق يقين، أيها المسلم، وكذلك قبلناه من الحواريين .

قال البصري: فلو كان عَرَض لمريم عارض، فماتت هي والمحمول منها، فمن كان يدبر الخليقة؟

ب - الشرح بتشبيه من القرآن

قال الراهب: ألا يقول قرآنك: إن الله بالأفق الأعلى، ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، ما كذَبَ الفؤاد ما رأى؟ هو إله الخلائق أم لا؟ .

قال البَصْري: نعم، هو الخالق لسائر الخلائق كلها وإلهها .

قال الراهب: فلو كان أفلت من الأفق الأعلى فوقع وتكسر، (تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً) فمن كان يكون إله الخلق؟ .

قال البَصْري: هذا إله (تبارك وتعالى) لا يُوصف ولا يُحد. وذلك محدود في بطن أمه .

قال الراهب: إن هذه الصفة التي تصفه بها هي صفة محدودة، كقولك: وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى. إن الذي بالأفق الأعلى لا بد من أن يُحيل أو يُحال. والذي بالدنو لا بد له من أن يتنحّى. والذي يتدلى، لا بد أن يرتفع أو يقع. فما تعني بقولك: وهو بالأفق الأعلى ثم دنا وتدلى؟ أتقول إنه (تبارك وتعالى!) متمسك بالأفق الأعلى ثم دلى رأسه ويديه؟ هذه صفةُ محدودٍ .

ج - الملاحظات الختامية

ثم قال الراهب: فأنت قلت: لو كان عرض لمريم عارض. وأنا قلت لك: لو كان أفلت من الأفق الأعلى. والأمران لا يمكن أن يحدثا. وإنما المسائل ثلاث: مسألة العالِم والمتعلم والمتعنّت. وأما مسألة العالِم والمتعلم فلها جواب حاضر. وأما مسألة المتعنّت فليس لها جواب إلا مسألة مثلها. وأنت وقفت مني موقف المتعنّتين .

3) ما معنى صلاة المسيح، أليست علامة عبودية؟

أ - شهادة الإنجيل بصلاة المسيح

قال البَصْري: أخبرني يا راهب، هل صلى المسيح؟ فإن الإنجيل يشهد أنه صلى وطلب إلى الله، والإله لا يصلي .

قال الراهب: حقاً إن إلإله لا يُصلي، وإنما الصلاة لله واجبة على العبد المخلوق .

قال له البَصْري: فأنت الآن قد كذَّبت نفسك والإنجيل .

قال الراهب: تسألني عن أشياء تقيم نفسك فيها مقام المدّعي والقاضي. معاذ الله أن أكذّب الإنجيل! لأن الإنجيل لا يُكذبه أحد، إلا اليهود وأهل اللعنة والنفاق ومن لا يؤمن بالله. بل، أيها المسلم، قد صلى المسيح (له المجد!)، بجوهر ناسوته لله أبيه .

ب - معنى صلاة المسيح

قال البصري: فلماذا تُبرئه من العبودية وتجعله إلهاً يُعبد؟ وإذا قيل لكم إنكم مشركون نفرتم. وإشراككم ظاهر لأنه لا يعبده إلا المشركون .

1) لا إشراك: النصارى غير مشركين وإنما مشتركون في المسيح

قال الراهب: ما نحن مشركون ولكنا مشتركون بنعمة الله، بهذا البشري المصطفى من جوهرنا، الذي به عرفنا الله ثلاثة أقانيم، والخير والشر، والقيامة والبعث .

لأن النصارى لم يبتدعوا أن يقولوا إن المسيح ابن الله الحي. لكن الله هو الذي قال: هذا ابني الحبيب الذي به سُررت، له اسمعوا. فقلنا: يا ابن الله، سمعنا وأجبنا. فقال لنا: أنا والآب واحد. بشر بهذا الملائكة المقربون، وتنبأ به الأنبياء المرسَلون، وأخبر به الحواريون المنذرون، واجمع عليه الآباء المكرمون. ونحن لسنا مشركين ولكنا مشتركون بنعمة الله .

وأما قولك إذ قلت إن الله لم يُصلِّ ولا يُصلي، فأنت الصادق .

قال البَصْري: كذبت، ما أشرَك اللهُ معه أحداً، ولا يرضى عمَّن أشرك به. ولقد قلت الحق: إن الله لم يُصل ولا يصلي .

2) لا عبودية بل رحمة ومغفرة

قال الراهب: ما أوضح الحق وأقوى الحجة في أمر المسيح، لمن صان نفسه عن المعصية والاستكبار! فأخبِرْني لمن يصلي العبادُ المؤمنون؟ .

قال له البَصْري: لله الواحد رب العالمين .

قال الراهب: ولمن يصلي الملائكة المقرَّبون؟ .

قال البَصْري: لله الواحد رب العالمين .

قال الراهب: ولمن يصلي اللهُ الواحدُ ربُّ العالمين؟ .

قال البصري: سبحان الله وتعالى عما تشركون! ما صلى الله ولا يصلي أبداً. بل له الصلوات من الملائكة والناس .

قال الراهب: إذن، قد أقررت أن الله لم يُصلِّ ولا يصلي أبداً، وأنت وكتابك تشهدان عليه أنه قد صلى، بقولك: إن الله وملائكته يصلون على النبي. يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلِّموا تسليماً. فأنت تقول إن الله وملائكته وعباده يصلون على محمد صلاة واحدة. فإن كان الأمر حقاً، فلا بد من أن يكون إلهٌ آخر، يصلي الله وملائكته وعباده له، ويطلبون إليه في أمر محمد. فمن أقرَّ بهذا فقد شقي في الدارين. وإن قلت خلاف هذا فقد كذَّبت نفسك وقرآنك .

قال البَصْري: إن صلوات الله ليست كصلوات الملائكة والعباد. وإنما صلاة الله رحمة ومغفرة منه على الأنبياء والمرسلين .

قال الراهب: ما فضلت الله ولا شرفته في القول: على الملائكة والأنبياء. بل أجريت الثلاثة في القول مجرى واحداً بقولك إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلِّموا تسليماً. فهذا مجرى واحد. لكني سأرجع معك إلى قولك أن تكون صلوات الله رحمة ومغفرة، كذلك هي صلوات المسيح. إنما هي رحمة على من آمن به واتّبعه. وكما صلى الله ورحم الأنبياء المرسَلين، كذلك صلى المسيح ورحم الحواريين والمتعَبين .

4) المسيح مخلوق أم غير مخلوق؟

أ - خلاف حول وحي القرآن و نبوّة محمد

قال الراهب: وهذا في قرآنك أن المسيح خالقٌ غيرُ مخلوق .

قال البَصْري: أراك تجادلني بقرآني. أَفَتُقرُّ أن هذا القرآن وحي من الله أنزله على نبيه محمد؟ .

قال الراهب: لا أقر شيئاً من هذا، ولا أقر أن نبيك نبي. ما هو إلا ملك ارتضاه الله، وتمَّ به وعده لإبراهيم في إسماعيل. لأنه من يوحنا بن زكريا انتهت النبوّة والوحي. يشهد بذلك دانيال النبي والمسيح .

قال البَصْري: كذبت. وما في القرآن أن المسيح خالق، بل مخلوق ابن مخلوقة .

ب - شهادات القرآن والإنجيل: لا تناقض بين ميلاد المسيح ولاهوته

قال الراهب: لا قوة إلا بالله! ألا يقول القرآن: وإذ قالت الملائكة: يا مريم إن الله اصطفاك وطهَّرك واصطفاك على نساء العالمين؟ .

قال البصري: هذا قول الله تبارك وتعالى! .

قال الراهب: فقد اصطفاها، وجبل عيسى منها بقوة الروح القدس. وولدته كما تلد النساء في التسعة أشهر، إذ لم يتغير ذلك الخاتم الطاهر المكنون، ولم يفسد. ونادت الملائكة المبشرون: السلام عليك يا مملوّة نعمة. الرب معك. وقال الله للملائكة والناس: هذا ابني الحبيب الذي به سررت، فله اسمعوا. فشككتم أنتم أنه ابن الله، وعاديتم المؤمنين به .

5 - هل المسيح عبد ونبي مثل باقي الأنبياء والرسل؟

أ - المقارنة الموضوعية في منزلة كل منهم

قال البَصْري: كذبت. ما المسيح إلا عبد من عبيد الله ونبي من المرسلين. إن مثله عند الله كمثل آدم، خلقه من تراب. ثم قال له: كن فيكون. أكرمه الله ورفعه إليه. وقد قال في القرآن: لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقرَّبون .

قال الراهب: إن من أكرمه الله وأنزله المنزلة التي لم يُنزلها سواه، ينبغي أن يُتّبع فوراً. ولكن، أين آدم وذريته؟ وأين نوح وقومه؟ واين إبراهيم وموسى والأنبياء والمرسَلون؟ وأين الشهداء والأخيار والأبرار؟ .

قال البَصْري: هم على الأرض وتحت الثرى .

قال الراهب: وأين محمد وأمته التي تزعمون أن الله لم يخلق خلقاً أكرم عليه منه، وأن محمداً أكرمُ على الله من المسيح ومن آدم؟ .

قال البَصْري: هو كما قلت، لا محالة .

قال الراهب: فأين هم؟ .

قال البَصْري: على الأرض وتحت الثرى .

قالا لراهب: وأين المسيح؟ .

قال البَصْري: في السماء رفعه الله وأكرمه .

قال الراهب: إذاً لو كان مثل المسيح كمثل آدم لكان مع آدم وذريته، أو مثل نوح لكان مع نوح وقومه، أو مثل إبراهيم وموسى والأنبياء والمرسَلين لكان معهم. ولو كان مثل محمد لكان معه. ولو كان محمد أكرم على الله من المسيح، لكان محمد مكان المسيح وكان المسيح مكان محمد .

ب - الشهادات الكتابية حول ربوبية المسيح و رفعه

ثم قال الراهب: وكيف صار هذا الذي تشهد عليه بالعبودية، رفعه الله إليه بالفضل والكرامة، وأجلسه على كرسي العز وألبسه المجد، وحجبه بالنور، وألهم الملائكة والعباد معرفته والإقرار له بالربوبية واللاهوت، وتمم له جميع ما قيل فيه على ألسنة أنبيائه، إنه ملك الملوك وليس لملكه انقضاء؟ .

وشهد له بذلك جبرائيل الملاك قبل أن يُحبل به، إذ قال لوالدته الطاهرة: إن الله مبشرك بكلمته. ولم يقل لها: إن معك عبداً من عبيد الله، بل روح الله معك، وقوة العلي تظللك، والقدوس المولود منك يُدعى ابن الله.

وبعد هذا، انطلقت مريم لزيارة أليصابات، أم يوحنا بن زكريا. فلما سمعت أم يوحنا كلام مريم، اضطرب يوحنا في بطنها وسجد. فقامت أمه تتنبأ بفرح عظيم وقالت: من أين لي هذا الشرف العظيم أن تأتي إليّ أم ربي؟ السلام لك، يا مباركة في النساء. منذ وقع كلامك في أذنيَّ، اضطرب الطفل في بطني وسجد . وهذا في كتابك، إذ يقول: وإذ قالت الملائكة لزكريا: إن الله يبشرك بيحيى مصدِّقاً بكلمة من الله نبياً من الصالحين (منذ كان في بطن أمه) .

وفي يوم ولادة المسيح، نزلت الملائكة من السماء يُسبحون ويقولون: المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة. وبشر الملاك الرعاة وقال: هوذا أبشركم بفرح عظيم، يكون لكم ولجميع الأمم. قد وُلد مخلص هو المسيح الرب. وتحرك المجوس، وأهدوا إليه القرابين الزكية بالخضوع والسجود، وكوكب النور دليلهم. ويوم دخل المسيح إلى أورشليم، هلل الأطفال مع الكهول والشبان بالتسابيح لله ولابن داود .

والكتب كلها تشهد له مؤيِّدةً ما جاء في الإنجيل، ولكنكم لا تقبلون. فكيف يستقيم أن يُسمَّى المسيح إنساناً أو يُدعى عبداً؟

د - مناظرة حول الصليب

1) استغراب الأمير من عبادة خشبة لا تنفع ولا تضر

قال الأمير: دع عنك الآن هذا كله، وأخبرني: ما بالكم تعبدون الصليب وتؤمنون به، وهو خشبة لا تنفع ولا تضر؟ .

قال الراهب: أيها الأمير، هل رأيك أنت وهؤلاء، مشترك فيما قلت إنا نعبد الصليب ونسجد له؟ .

قال الأمير: نعم .

قال الراهب: يا سيدي هؤلاء لا يُلامون لأنهم يَدْعون إلى ما دُعُوا إليه، لا علم لهم إن أصابوا ولا إن أخطأوا. وأما أنت، فقد وهبك الله الحسب والنسب، والشرف والمُلْك، والسلطنة وحُسْن الأدب. وقد سبق فيك قول محمد، إذ قال: قدِّموا قريشاً ولا تتقدَّموها، وتعلَّموا من قريش ولا تُعلِّموها. فإن رأْيَ القريشي رأْيُ عشرة رجال. فمن كانت هذه حالته، فكيف يقبل أن يقول إن النصارى يعبدون الصليب؟

2) حب النصارى للصليب لما له من معنى وقدرة

ثم قال الراهب: لا، نعبده. ولو كنا نعبده ما كنا نفعل به ما نفعل من إظهاره على رأس كل جبل وفي كل مكان. لا ينبغي لأحد أن يلوم النصارى على حبهم للصليب، لأنه قد ظهر لهم منه أمور لا تعد ولا تحصى. وذلك أنه عَلَمُ الفداء، ورايةُ النصر والخلاص من الضلالة. وفي ذلك يقول رسول المسيحية بولس: حاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح، الذي به قد صُلب العالم لي، وأنا للعالم .

ه - مناظرة ختامية حول القيامة والبعث

قال البصري: ويحك، يا راهب، ما أعظم كفرك! إنكم لا تؤمنون بالقيامة ولا البعث ؟

قال الراهب: نحن من أمر القيامة والبعث على الحق واليقين، لأننا قد رأينا القيامة والبعث عياناً. وأما أنتم واليهود، فمن القيامة والبعث على الرجاء .

قال البصري: وكيف ذلك؟ .

قال الراهب: قال موسى لبني إسرائيل: إن القيامة ستقوم وإن الله سيبعث مَنْ في القبور. فمات موسى ولم يقم .

وجاءكم محمد وقال: يا معشر المسلمين، إن القيامة ستقوم وإن الله سيبعث مَن في القبور. فمات محمد ولم يقم .

وجاءنا المسيح وقال: يا معشر الناس، إن القيامة بي تقوم، وإن الله يبعث مَن في القبور. فمات وقُبر، وقام وانبعث حياً، وطلع إلى السماء ويأتي ثانية. فنحن من المسيح على التحقيق، وأنتم من صاحبكم على الرجاء .

و - حبس الراهب ثم إطلاق سبيله

فغضب الأمير وأمر بحبس الراهب. فقال الراهب للأمير: ما كان هذا الرجاء منك ولا العهد والميثاق .

فقال الأمير: ما عليك بأس! فمضوا به إلى الحبس.

فلما جُنَّ الليل، دعا الأمير الراهب وقال له: أتحب أن تسكن بلدنا فأُنعم عليك وأُقطِعك وأقوم بشأنك، أم تحب أن أخلي سبيلك؟ .

أجاب الراهب: أطلق سبيلي .

فأجازه وأحسن إليه وصرفه بسلام.

عودة الى الصفحة الرئيسية